موز الجنوب وحمضيّاته.. بطعم “داموريّ” وفلسطينيّ
تعود توأمة الحمضيّات والموز في جنوب لبنان، إلى أواخر أربعينيّات القرن الماضي، حيث اجتمعت عوامل مشتركة، نسجت هذه الحميميّة بين الحمضيّات والموز. أولى هذه العوامل التربة الخصبة والدافئة، التي تهيّأت لها المياه المتدفّقة من روافد نهر اللّيطانيّ (مشروع ريّ اللّيطاني) وانطلاق عمليّة حفر الآبار الارتوازيّة في المناطق القريبة من البحر، ولاحقًا في المناطق التي تقارب المائتي متر، وصولاً إلى ارتفاع 400 متر في بعض قرى النبطيّة والزهراني.
لعب عنصر المال، الذي كان متوافرًا إلى حدّ كبير في تلك الفترة، دورًا كبيرًا في تشجير الشريط الساحلي الممتد من صيدا إلى الزهراني والقاسميّة وصور ورأس العين والمنصوري والناقورة. كان غالبية ملاكي ذلك الشريط من رجال السياسة والسلطة ورؤوس الأموال الاغترابيّة، يأتي في طليعتهم آل الخليل وعسيران وسلام وصفيّ الدين والأسعد والزعتري والبساط وصالحة وجفّال وقاسم وحمّود ومغنيّة وأبو خليل وآخرون (حدث تبدّل كبير في الملكيّات حاليًّا).
لقد شكّلت الأيدي العاملة الفلسطينيّة، التي لجأت إلى مناطق الجنوب، على أثر نكبة فلسطين في العام 1948، أحد أهمّ عناصر النهوض بقطاع زراعة الحمضيّات منذ بداية الخمسينيّات، نظرًا إلى خبرات وتمرّس هؤلاء بزراعة الحمضيّات قبل التهجير في ساحلهم الفلسطينيّ، في عكّا وحيفا، إذ كان قطاعًا مزدهرًا منذ ما قبل العشرينيّات في بلادهم، فنقلوا خبراتهم في غرس أنواع الحمضيّات ومنها “اليافاوي”، نسبة إلى مدينة يافا، إضافة إلى حاجة الآلاف منهم إلى فرص عمل، فكانت الزراعة ملاذهم الأسهل، في وقت كانت فيه الأكثرية من شباب الجنوب، تطرق أبواب العاصمة بيروت، للعمل بمرفئها التجاريّ، الذي انتعش بقوّة، بعد احتلال فلسطين ومرافئها، وتحديدًا مرفأ حيفا.
إلى جانب اليد العاملة الفلسطينيّة الماهرة، كان لـ”الدوامرة”، نسبة إلى أبناء بلدة الدامور الشوفيّة، فضلًا كبيرًا في انطلاق زراعة الموز في سهل صور الممتدّ إلى رأس العين جنوبًا، والقاسميّة شمالًا، وصولًا إلى بلدة عدلون التي يتملّك قسمًا كبيرًا من سهلها أفرادٌ من آل نحولي وعسيران وكْرِشت وبيضون وبدر الدين، ناقلين إلى هذا السهل الخصب والمرويّ، بعدما كان جافًّا، تجاربهم في زراعة الموز، من سهل الدامور، الذي كان قد سبق سهول الجنوب بزراعة نبتة الموز الإستوائيّة.
تشهد على تاريخ بدايات زراعة الموز والليمون في سهول الجنوب، بشكل دقيق نسبيًّا، قلّة من كبار السنّ بقيت في المنطقة، وواكبت هذه الزراعة بزنودها السمراء وساعات العمل الطويلة، البالغة 8 ساعات عمل يوميًّا، ينهمك أفرادها في “تبويج” وحفر الأراضي بعمق يتجاوز الـ 60 سنتيمترًا، في تربة قاسيّة بليدة، لتستقرّ فيها نبتة الموز ونصوب الحمضيّات، وتنال نصيبها من المياه بواسطة الجرّ، هذا قبل أن تتحوّل اليوم إلى الرّيّ بالشبكات المتطوّرة.
تراجع الحمضيّات لصالح الأفوكا والموز
منذ بداية التوأمة بين الحمضيّات والموز، في أواخر الأربعينات وحلول الخمسينات من القرن الماضي، مرّت هذه الزراعة بتقلّبات عديدة، كان سببها الرئيس، العرض والطلب وتوافر الأسواق لإنتاج هذين الصنفين، خصوصًا الحمضيّات، التي وصل إنتاجها في السبعينيّات إلى أكثر من 350 ألف طنّ، يستوعب السوق المحلّيّ منها، ما بين عشرين إلى ثلاثين بالمئة، والأمر نفسه بالنسبة لإنتاج الموز الذي بلغت ذروته 175 ألف طنّ، تتحمّل السوق المحلّيّة منه النسبة عينها، ويصدّر في غالبيته إلى سوريّا والأردنّ، بينما تصدّر الحمضيّات عادة إلى العراق ودول الخليج العربيّ وكذلك نحو جزء من أوروبا.
في العقدين الأخيرين، دخلت زراعة الأفوكا والقشطة بنسبة أقلّ على خطّ منافسة الحمضيّات بكلّ أصنافها، فاحتلّت بساتين الحمضيّات حقول وسهول بلدات العباسيّة، البرغليّة، البرج الشماليّ، طيردبّا رأس العين، المنصوريّ والناقورة، صعودًا نحو المرتفعات في قرى صور والزهراني، والتي تلامس الـ400 متر فقط، إذ تُمعن الجرّافات في اقتلاع آلاف الأشجار المعمّرة من الحمضيّات، وقد تجاوز عمر معظمها الخمسين عامًا.
الداموريّ نعمان كنعان
حمل نعمان ميلاد كنعان (الملقّب بالقريعة) ابن بلدة الدامور في جبل لبنان، المئات الأولى من شتول الموز من الدامور الى منطقة البيّاض، عند مفترق بلدة العبّاسيّة، التي تفصلها مئات الأمتار عن البحر، عند مدخل صور الشماليّ، وهناك بشّر بهذه الزراعة الجديدة في الجنوب، فأضحت اليوم الأولى مع الحمضيّات.
كان ذلك وبحسب أحد أبنائه ميلاد (أبو ميشال البالغ 67 عامًا) في سنة 1947 من القرن الماضي، حين يمّم والده نعمان وخاله خليل الياس كنعان وجهيهما شطر الجنوب، فزرع والده قطعة أرض مستأجرة في العبّاسيّة، وكان فيها نبعة مياه وبئر محفورة يدويًّا، بينما شجّر خاله قطعة أرض مماثلة في البرج الشماليّ.
ويقول ميلاد كنعان لـ”مناطق نت”: “إنّ والدي وشقيقي الأكبر وخالي باشروا بنقل فروخ الموز وتوسيع هذه الزراعة، لينتقل بعدها والدي الى منطقة البرغليّة المجاورة، حيث استأجر قطعة أرض لمدّة ستّ سنوات، ومن المتعارف عليه، في حينه، أنّ مدّة الإيجار تتراوح بين ست سنوات وثمان”.
ويتابع كنعان، الذي أمضى ثلثي عمره في صور، ولا يزال إلى الآن يعمل في زراعة الموز على عقار أرض مستأجرة في الشبريحا: “إن غالبية العمّال، ممّن اشتغلوا مع والدي في تلك الفترة، كانوا من القرى المجاورة، منها طورا، العبّاسيّة، طيردبّا، معركة والبازوريّة وغيرها من البلدات المجاورة لصور. فكانوا ينزلون إلى العمل على الدواب ولاحقًا بواسطة الدرّاجات الهوائيّة”.
وعن تاريخ البدء بزراعة شتلة الموز في بلدته الدامور، يشير كنعان إلى أنّ ضابطًا فرنسيًّا هو من أحضرها في منتصف الأربعينيات وأهداها الى أحد وجهاء الدامور ويدعى فريد الشيخ، الذي غرسها في حديقة منزله، بعدها امتدّت الزراعة في سهل الدامور شيئًا فشيئًا حتّى غدت تغطّي السهل بأكمله.
العمالة الفلسطينية
على غرار من سبقهم من “المهجّرين” الأرمن، الذين أقيمت لهم بيوت على أملاك عموميّة، في البصّ والرشيديّة في العام 1936، وعملوا في الزراعة إلى جانب اللبنانيّين في سهل صور، وأشتهروا بزراعة البطاطا الحلوة بكثرة، وغرس أشجار التوت، اندفع الفلسطينيّون المهجّرون قسرًا من بلادهم وقد تركوا وراءهم أملاكهم، ومنها بساتين الحمضيّات التي غرسوها، للتوجّه إلى العمل في قطاع الزراعة، الذي لا يحتاج إلى أذونات عمل كباقي الأعمال “المحرّم” على الفلسطينيّين ممارستها في لبنان، وعددها 74 مهنة.
توجّه غالبيتة العمال الفلسطينيين للعمل في زراعة الخضار في أراضي سهل رأس العين والحنّيّة والقاسميّة القريبة من مخيّماتهم. فبرعوا في الزراعة، وكانوا من الأوائل الذين امتهنوا زراعة الحمضيّات لصالح عدد من الملّاكين الكبار في المنطقة، ومنهم آل سلام وعرب وغيرهم، حتى وصل قول البعض من أبناء المنطقة “إنّ زراعة الحمضيّات قامت على ظهر العمّال الفلسطينيّين”.
من أمّ الفرج إلى الرشيديّة
هُجّر خضر محمّد عليّان من بلدته أمّ الفرج في قضاء عكّا إلى جنوب لبنان، عبر الناقورة، وحطّ رحاله مع أولاده الأربعة في مخيّم الرشيديّة وذلك في شهر أيّار من العام 1948، حيث سكن إلى جانب عائلات أرمنيّة في المخيّم، كانت قد سبقتهم في رحلة تهجير مختلفة الى المنطقة قبل 12 عامًا.
عمل عليّان، الذي كان صاحب بستان مغروس بالحمضيّات في قريته أمّ الفرج، تتعدّى مساحته 60 دونمًا، في زراعة الخضار والحبوب كمُياوم مع أولاده الأربعة في السهول القريبة من سكنه في الرشيديّة، وهي من أشهر سهول الجنوب وأخصبها. ثم عمل مع بداية الخمسينيّات في نقل خبراته في غرس أشجار الحمضيّات إلى منطقة الحنّيّة، وهي من أملاك “البيارتة” من آل سلام، بأجر يوميّ هو أدنى من ليرتين لبنانيّتين.
توفّي خضر عليّان منذ سنوات، ولم تتحقّق له العودة إلى بستانه في أمّ الفرج، وبقي أولاده يعملون في زراعة بعض الدونمات، تعود ملكيّتها للدولة اللبنانيّة، وهي تقع حاليًّا ضمن القسم الزراعيّ والآثار، الخاضع لمحميّة صور الطبيعيّة.
يقول نجله فيّاض وهو في العقد السادس من العمر لـ”مناطق نت”: “لقد ترك والدي بلدتنا الحبيبة أمّ الفرج عنوة، بفعل أغتصاب أراضينا من قبل الكيان الاسرائيليّ، وحطّ مع والدتي وأشقائي الثلاثة في مخيّم الرشيديّة. وقد عمل طوال فترة حياته في لبنان، في الزراعة بكلّ أنواعها ومنها زراعة الحمضيّات”.
ويضيف عليّان الأبن: “كان والدي المرحوم، يخبرنا بأنّه عندما جاء إلى المنطقة، لم يكن في سهل القْلَيلة ورأس العين والمنصوريّ، أيّ شجرة حمضيّات، فكانت الأراضي إمّا مزروعة بالقمح والشعير، وإمّا بالخضار إلى جانب الأراضي البور غير المستصلحة”.
ويلفت فيّاض إلى أنّ “الآلاف من الشبّان الفلسطينيّين، ساهموا في تلك الفترة مساهمة فعّالة في نهضة وتطوّر زراعة الحمضيّات على وجه الخصوص في هذه المنطقة. وما زالت أعداد كبيرة منهم، من مخيّمات منطقة صور إلى الآن، تغني هذا القطاع، من خلال تبوّئها ورش قطاف الحمضيّات وتقليم الأشجار والعناية بها، على الرغم من ارتفاع منسوب العمالة السوريّة في هذا القطاع، في العقد الأخير تحديدًا”.
المختار بحسون
قد يكون عبد الكريم بحسون (مختار بلدة طيردبّا الأسبق) واحدًا من القليلين جدًّا على مستوى الجمهوريّة اللبنانيّة، الذي لا يزال يعمل في الخدمة العمليّة في القطاع الخاص، وهو في سنّ الواحدة والتسعين. بدأ بحسون، عمله كوكيل زراعيّ، في منتصف العام 1958، لدى أصحاب بساتين حمضيّات من آل مغنيّة في سهل بلدته طيردبّا المجاورة لصور، وهو يحتفظ بذاكرة رخيمة، تؤرّخ لانطلاق مسيرة غرس الأراضي بأشجار الحمضيّات وأيضًا بأشجار الرمّان والموز في أكثر من منطقة في ضواحي صور.
يؤكّد بحسون، الذي يتابع عمله كمسؤول عن هاتين المصلحتين الزراعيّتين، أنّ عملية زراعة الحمضيّات في هذه المنطقة، وتحديدًا في “الحبيشيّة” بدأت في العام 1958 “بعدما تمّ نقب الأرض وجمع الحجارة من قبل عشرات العمّال والعاملات، تزامنًا مع حفر بئر ارتوازيّة للرّيّ، كون مشروع ريّ الليطانيّ لا يصل إلى تلك الأراضي الواسعة والخصبة”.
ويضيف بحسون: “عندما بدأنا في التحضيرات، ذهبنا إلى منطقة جبيل وجونيه لشراء نصوب الليمون من أحد المشاتل الزراعيّة القريبة حالياً من التلفريك. وكان قد سبقنا إلى زراعة الحمضيّات في مطلع الخمسينّيات جيراننا في السهل عينه، وكذلك حسين عسيران، وهو صهر الرئيس المرحوم عادل عسيران، فزرع أكثر من 700 دونم في منطقة القاسميّة وعين أبو عبدالله التابعة لبلدة برج رحّال. وكان قسم من الأراضي مزروعاً بأهمّ أنواع الرمان”.
ويتابع بحسون لـ”مناطق نت”: “إن معظم العمّال في البساتين، التي كنت مسؤولًا عن متابعتها، هم من الفلسطينيّين، من مخيّميّ البرج الشماليّ والرشيديّة، وكان من بينهم طلابّ، كانوا يستأذنون للتوجّه إلى سوريا لإجراء إمتحانات شهادة التوجيهيّة، بينما كان قليلون من أبناء المنطقة يعملون في البساتين”. مشيراً إلى “أن العمّال كانوا يعملون بأجر يوميّ قدره ليرتان لبنانيّتان ولمدة ثماني ساعات، ليس كما هي الحال اليوم، إذ تتراوح ساعات العمل بين أربعة إلى خمس ساعات”.
أحمد ضاهر وحكايته مع الموز
أحمد ضاهر (أبو علي) واحد من العشرات من أبناء بلدته طورا وزملاء له من طيردبّا والعبّاسيّة ومعركة، ممّن عملوا في زراعة الموز في الربع الأوّل من خمسينيّات القرن الماضي.
يقول ضاهر البالغ 88 عامًا: “في هذه الفترة، وعلى ما تحفظ ذاكرتي، فإنّ من أوائل بساتين الموز في منطقة جوار النخل – البرغليّة، كان على يد ابن بلدة الدامور سعيد عون، الذي استأجر أراضٍ في المنطقة، وزرعها بأغراس الموز، تزامنا مع غرسها بالحمضيّات، حتى يكسب استثمار الأرض، التي كانت تؤجّر لثماني سنوات، فالموز بحاجة إلى سنة لكي يثمر، لكنّ الحمضيّات تحتاج إلى نحو سبع سنوات”.
ويلفت ضاهر ل”مناطق نت” وهو الذي بدأ عاملاً، ثم مستأجرًا للأراضي التي غرسها بالموز، وأصبح لاحقًا مالكًا لعشرات الدونمات، ولمّا يزل يرعاها حتى الآن، بمعاونة عدد من أبنائه وأحفاده ممّن توارثوا زراعة الموز، إلى أنّ “الدوامرة، ومنهم سعيد عون وحبيب كنعان وحبيب غنيمة وآخرون، ذهبت أسماؤهم عن بالي، كانت لهم الريادة في نقل زراعة الموز إلى الجنوب اللبنانيّ، الذي تحتضن أراضيه حاليًّا ملايين نباتات الموز على أنواعه، ومن ضمنها أنواع مزروعة في الخيم البلاستيكيّة والشبكيّة”.
المصدر : مناطق .نت