الهدف النوعي على حساب العمق .. لماذا اختارت المقاومة الاسلامية هذه المعادلة ؟
رغم إخفاء الكيان عدد القتلى في صفوف جيشها، ومحاولة إظهار نفسها كصاحبة اليد الطولى في المعركة مع حزب الله، إلا أنها تتعامل مع حسابات الميدان وفق خسائرها الحقيقية وليس وفق دعايتها الإعلامية.
ما يزيد عن ٢٣٠ قتيلًا في صفوف الجيش الإسرائيلي سقطوا، منذ الثامن من تشرين أول/أكتوبر، بنيران حزب الله عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، بحسب معطيات ميدانية حصرية لموقع The Cradle.
وبالتوازي مع الخسائر الكبيرة في صفوف جيش الاحتلال يعمد حزب الله إلى انتقاء أهداف نوعية على حساب العمق بما يحقّق أهداف فتحه لجبهة جنوب لبنان.
على عكس حزب الله، الذي يعلن عن أسماء وأعداد شهدائه، يفرض جيش الاحتلال منذ يوم الثامن من تشرين أول/أكتوبر رقابة عسكرية مشدّدة، على حجم خسائره البشرية، ويتكتّم عن حجم الضربات النوعية التي تتعرّض لها مواقع وقواعد حساسة في شمال فلسطين المحتلة.
على صعيد الخسائر البشرية، ووفق معطيات ميدانية، عمدت إسرائيل إلى الإقرار بعدد ضئيل من قتلاها. وترافق ذلك مع خطوات لتعزيز تغييب واقع المشهد، عبر سلسلة إجراءات تخدم التعاطي مع جبهة الشمال، فدفع “بدلًا ماديًا” لعائلات الجنود من “البدو”، الذين يعملون ضمن وحدة “قصاصي الأثر” وينشطون عند الحدود مع لبنان وفي قطاع غزة وفي الضفة الغربية المحتلة، بحدود معينة، وعند الحدود مع مصر، حيث تشير التقديرات الميدانية، إلى أن العدد الأكبر من القتلى وقع في صفوف تلك الوحدة نتيجة طبيعة عملها، التي تتعزّز خلال أيام الحرب والتي تتركّز في منع عمليات تسلّل عبر الحدود، ما يتطلب حضورًا في مناطق متقدّمة، لحاجة الجيش لذلك.
حملات دعائية لوحدة “قصاصي الأثر”
خلال السنوات الماضية، وضمن الحملات الدعائية لجاهزية الجيش عند مختلف الجبهات وإظهار التنوع في صفوفه، نظّمت نائبة المتحدث باسم الجيش “كابتن أيلا”، وهي عربية، عام 2020، جولة مع ضابط من وحدة “قصاصي الأثر” عند الحدود اللبنانية الفلسطينية يدعى “علي فلاح” ويعمل ضمن لواء الشمال، شرح خلالها خطورة عملهم عند نقطة صفر.
قتلى من العرب الدروز
الأسلوب نفسه الذي اتبعه جيش الاحتلال مع عوائل القتلى من “البدو”، نفّذه مع عائلات الجنود القتلى من الطائفة الدرزية، حيث ينضوي هؤلاء ضمن تشكيلات وكتائب منفردة أو ما يسمى “دفاع محلي” في قرى قريبة من الحدود مع لبنان.
على سبيل المثال، قضى من الكتيبة 299 – التي يشكّل الدروز 70% من عناصرها وترابض في منطقة “حرفيش”، على بعد 4 كيلومترات من الحدود اللبنانية – عدد ليس بكبير، وما أعلن عن مقتلهم لا يتخطى عدد أصابع اليد الواحدة.
المرتزقة
ينشط عناصر من المرتزقة ضمن وحدات جيش الاحتلال القتالية، وقد التحق الكثير منهم إبان إعلان العدوان على غزة، ووضع جزء منهم عند الحدود مع لبنان. عادة، لا يتم الاعتراف بمقتلهم، وترسل جثامينهم إلى البلد الذي قدموا منه، ولا يتم إدراجهم ضمن عداد قتلى الجيش. وتؤكّد المعطيات أن عددًا منهم قتل عند الحدود أيضًا.
لماذا تخفي إسرائيل عدد قتلاها؟
لا شك أن عملية السابع من أكتوبر ألقت بظلالها على المشهد الإسرائيلي برمته وطالت المستويات كافة وشكّلت حالة من الصدمة، ومع إعلان الحرب على غزة، واشتعال جبهة جنوب لبنان بقرار من المقاومة، وتصاعد الاشتباك، توصّل جيش الاحتلال إلى تقدير بعدم القدرة على خوض حرب شاملة على جبهتين، خصوصًا مع لبنان، حيث الحسابات مغايرة لما عليه الحال في قطاع غزة.
وفي ظل العجز عن تقديم منجز للمستوطنين جنوب الأراضي المحتلة، يتوسّع النقاش في الأوساط الإسرائيلية حول كلفة الحرب مع لبنان وانعكاسها على مجتمع المستوطنين، والتي من شأنها أن تعمّق المشكلة لا أن تحقّق هدف “الشعور بالأمن”.
وفي ظل وقوع حكومة نتنياهو تحت ضغوط عدة، منها ما يتعلّق بمسألة الأسرى لدى فصائل المقاومة، وكذلك ضرورة توجيه الجهد الحربي في قطاع غزة، وضغوط مستوطني الجنوب والشمال، والضرر الاقتصادي المتفاقم كنتيجة مباشرة للحرب والتي طالت قطاعات واسعة في الكيان، فضل الجيش الإسرائيلي صبّ جهده الحربي على الجنوب، وتجنّب توسيع دائرة المواجهة في الشمال، لاختلاف حساباتها، وتدخل العامل الأميركي لمنعها.
وعليه، عمدت المؤسسة الأمنية وبدعم من مجلس الحرب إلى اتباع سلسلة سياسات لمعالجة الواقع المستجد عند الحدود الشمالية، على رأسها التعويل على الجانب الدبلوماسي والمسعى الأميركي لتحقيق أهداف إعادة المستوطنين، من دون الاضطرار إلى عمل عسكري غير مضمون النتائج.
ونتيجة لضغوط المستوطنين في الشمال وإقتناعهم بأن “حزب الله فرض حزامًا أمنيًا داخل إسرائيل” – وفق تعبيرهم – وعدم اضطراره إلى توسيع ردات فعله، وعدم توسّع عامل “فقدان الثقة” مع الجمهور، آثر الجيش على اتباع سياسة إخفاء الخسائر العسكرية، بشريًا وماديًا، وعدم الإسهاب في الحديث أو التصريح حولها أو بشأن المأزق الأمني المتنامي.
والأهم، أن سياسة إخفاء الخسائر عن الجمهور تساعده في عدم وضع نفسه أمام تحد لردود قد تؤدي إلى توسّع المواجهة وانزلاقها نحو تصعيد لا يمكن السيطرة عليه.
وفي مقابل التكتّم على الخسائر يظهر جيش الاحتلال نفسه كصاحب اليد الطولى في الميدان، من خلال عرض مشاهد الغارات التي ينفّذها سلاحه الجوي في العمق اللبناني. يفهم ذلك من تصريحات رئيس الأركان ووزير الحرب يوآف غالانت الذي تباهى في أكثر من مناسبة بقدرات سلاح الجو “المذخّر” القادر على الضرب في “العمق” الذي يختاره.
في مقابل المنهجية الإسرائيلية، عمدت المقاومة إلى إسقاط مسألة العمق مقابل العمق كمعادلة، واستعاضت عنها بالهدف النوعي والحساس مقابل أي تماد إسرائيلي، وهو ما ترجم فعليًا بعد العدوان الإسرائيلي الذي طال ضاحية بيروت الجنوبية وأدى إلى استشهاد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري.
يومها، انتقت المقاومة هدفًا نوعيًا قريب من الحدود وهو قاعدة “ميرون” للمراقبة الجوية والمتعدّدة المهام ووجّهت لها ضربة أثّرت في عملها.
ما فعلته المقاومة، وضع إسرائيل أمام معادلة أكثر تعقيدًا، لاعتبارات عدة، أبرزها أن حزب الله بدأ مرحلة من العمل تؤثّر على أداء جيش الاحتلال، وتطويرها يعني إرباكًا خلال المواجهة القائمة، وأذىً أكبر في حال توسّع المواجهة. فبعض الضربات التي وجّهت لأهداف نوعية، كما هو الحال عند توسيع المواجهة نحو قواعد ومقرات القيادة في الجولان، حملت أبعادًا أمنية حساسة وأعطت صورة عن مستقبل توسّع أي مواجهة.
وعليه، نلاحظ ذهاب العدو نحو محاولة فرض معادلة مفادها، استهداف هدف نوعي وبسلاح نوعي، يعني ضرب أهداف في مناطق بالعمق، وتحديدًا بعلبك، وهو لم ينجح حتى الساعة في فرضها حيث تعمد المقاومة إلى رد سريع ومباشر بعد أي استهداف من هذا النوع.
لماذا اختار حزب الله الهدف النوعي على حساب العمق؟
عندما فتح حزب الله جبهة الجنوب وضع لها اعتبارًا رئيسيًا، وهو إسناد المقاومة في غزة عبر إرباك الجبهة الشمالية لإسرائيل، وهو ما استدعى نقل قوات ومنظومات دفاع جوي وحضور لسلاح الجو، خشية تدهور الوضع، خصوصًا في الأيام الأولى للحرب.
إلى جانب الاعتبار الأول لفتح الجبهة، حدّد السيد حسن نصرالله نقطة أخرى، وهي السلوك الإسرائيلي في لبنان، أي احتمال ذهاب تل أبيب نحو فتح حرب أو محاولة تسيير الجبهة وفق ما يحقّق لها أهدافًا ذات بعد “ردعي”.
أمام الاعتبارين أعلاه، سيّر حزب الله الجبهة وفق ما يريد، ووفق ما يحقّق أهدافه، لذلك أدار ولا زال المواجهة، بـ “ميزان الذهب”.
ومن ضمن هذه الإدارة، فضّل الهدف النوعي على مسألة العمق مقابل العمق، مع عدم إسقاط احتمال التوسيع ضمن مديات محدّدة تخدم ذات الأهداف.
والأهداف هي:
– إسناد المقاومة في فلسطين وتسيير الجبهة وفق مجريات الحرب هناك.
– تعزيز الردع في مواجهة العدو الإسرائيلي ومنعه من العدوان الواسع.
– إيصال رسائل ميدانية تعطي صورة عن قدرة المقاومة على الجمع الاستخباري والقدرة على التعامل مع الأهداف المختلفة.
– عدم توسيع الحرب بما يخدم تطلّعات إسرائيل.
– إبقاء جيش العدو في الشمال بحالة استنزاف مستمر.
في المحصلة، يخسر العدو الكثير من النقاط، ويدفع ثمنًا كبيرًا، لكنه ليس بمقدار ما يمكن أن يدفعه في حال قرّر فتح مواجهة شاملة، لذلك هو عالق في جبهة يتقن حزب الله إدارتها.
والأهم، أن حسابات العدو تتم وفق واقع الخسائر لا وفق ما يعلن للجمهور ويستثمر في الداخل.
المصدر : خليل نصرالله – المختص بالشؤون الإقليمية