رأينا “شمس”.. صورٌ مسرّبة لمحمد علي شمس الدين

لم يكن الحضور الشعري والنقدي لمحمد علي شمس الدين حضوراً عابراً. إلى أي مدى ترك بصمة في الشعر العربي الحديث؟ وكيف تحدّث عنه شعراء ونُقّاد رأوه وعرفوه؟


رحل الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدين، أمس الأحد، عن عالمنا، ووافى ربَّهُ بعد أن أرسلَ نسمةَ صيفٍ في طلبِه، فتحقّقت نبوءتهُ في القصيدة، والتقى بسابقيه من الشعراء الذين أحبّهم، ومن بينهم امرؤ القيس ولوركا وحافظ الشيرازي.

لا شكَّ أنَّ رحيلهُ يتركُ فراغاً شاسعاً، وشرخاً يصعبُ ترميمه، في المشهدِ الشعري العربي عموماً، واللبناني خصوصاً، ولكنَّ حضورهُ العميق تركَ أثراً وإرثاً لا يُمحى، بل يتوالد في حركة الشعر العربيّ المعاصرِ وتحوّلاته.

لصُوَرِ محمّد علي شمس الدين الخالدة، خصّصت “الميادين الثقافية” هذه المساحة، التي يتحدّث فيها شعراء ونقّاد عن الرّاحل الكبير، كما رأوه وعرفوه.

أميرال الطيور في فضاء الحقول البعيدة
أحمد إمام – شاعر مصري

لديَّ توجّسٌ دائمٌ تجاه المكالمات الصباحية، ولديَّ يقينٌ أبديٌّ بأنَّ الأرض تنقصُ من أطرافها بموت الشعراء الكبار؛ العاشرة إلا قليلاً من صباح يومٍ عادي،استيقظَ فيه الشاعرُ وقرَّر أن يدخل في فضاء الحقول البعيدة، واستيقظتُ على بضع كلماتٍ قاطعة من صديقي أحمد عايد:

“البقاء لله يا إمام… شمس الدين مات”. ناولَته مينيرڤا حذاءه وقلبه وقربة ماء الحياة، أما السفر فهو يعرفه جيداً، يعرفه منذ غادر جماعته الأولى، “شعراء الجنوب”، التي عُرفَ من خلالها، و التي لم تُشكَّل فعلياً على أرض الواقع، ولكن شكَّلها الظرف التاريخي أكثر من الحساسية الشعرية، في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.

بدأ شاعراً مقاوِماً ملتزماً بقضايا وطنه، ومات على النهج نفسه، ولكن على طريقته. لم يتورّط قطّ في الكتابة المقاومة بمفهومها التحريضي الساذج، ولم يقع في المُباشَرة المنافية للطبيعة الشعرية، وانحاز إلى الفن ذاته كفعلٍ مقاوِمٍ.

استمرَّ في السفر من الفلسفة إلى التاريخ، ومن التصوّف إلى الرمزية، واستمرَّت أسئلة الشاعر التي أتْبعَها دائماً بفراغاتٍ ليست تُفضي؛ كان يعرف جيداً أنَّ الشاعر عدوٌ حقيقيٌّ للإجابات.
أفادت نصوصه من تعدُّد معارف صاحبها، من دون أن تظهر تلك الحمولات المعرفية ناتئةً على النصوص، فشاعرها شاعر أقنعة بامتياز، لا تُسلمك قصيدته نفسها من القراءة الأولى أو حتى الثانية…
ترك محمد علي شمس الدين نتاجاً شعرياً كبيراً، يحار الواقف أمامه أنَّه لشاعرٍ واحدٍ. غابةٌ شعريةٌ هائلةٌ، يجاور فيها النصُّ الإيروتيكي النصَّ الغزلي، وأسئلة الميتافيزيقا نصوص العرفان. غابةٌ متعدِّدةُ الرؤى والأوجه، آمن فيها بلا نهائية المعرفة، وكونية عمل الشاعر. وعلى مستوى الشكل، كتب النص الكلاسيكي والتفعيلي والشذرة والأبيغرام، وناوش قصيدة النثر، وترجم ترجمةً شعريةً، كما في الشيرازيات التي دخلها بنرجسيته المعروفة رأساً برأسٍ، مع صديقه حافظ الشيرازي.

غربت شمس الشعر العربي في جبل عامل، حيث أسلم الشاعر جسده الذي أنهكه المرض إلى تراب قريته عربصاليم، وفي ظنّي أنّه في صباح يومٍ عاديٍّ ستأتيني مكالمةٌ، لن أتوجّس منها هذه المرة، ولكن ستغلبني الدهشة حين أسمع عن حيلة “أميرال الطيور” في العودة في صورة طائر الفينيق!

عقلٌ مسكونٌ بالغيب، قلبٌ متخمٌ بالحدس
د. فاروق شويخ – شاعر وناقد لبناني

الشّاعر محمّد عليّ شمس الدّين ذو أثرٍ واضحٍ في خارطة الشّعر العربيّ الحديث. يعكس ذلك ما أُجرِي، ولا يزال، حول نتاجه من دراسات وأبحاث، وما كُتب من مقالات نقديّة، متناوِلةً موضوعاتٍ شتّى، كتوظيفِهِ التّراثَ الصّوفيَّ ولغتَه الشّعريّة وصورةَ المرأة والرّمز وشعريّة الانزياح… وأنا بدوري، حين قرَّرتُ إجراء أطروحتي الجامعية، انطلقتُ من قراءة، أزعم أنّها سابرة إلى حدٍّ ما، لنتاج شمس الدين الشعري، وبعد علاقةٍ شخصيةٍ معه تجاوزت الربع قرن، سألتُ نفسي إذا ما كان يمكن تحديد رؤية الشاعر محمد علي شمس الدين إلى العالم، انطلاقاً من رؤيته إلى الله والوجود والإنسان؟ بعد سنواتٍ خمسٍ، أنجزتُ الدراسة، وقد أورثني التبحُّر النقديّ في قصائدِه إلى أن أراه من أهمّ الأسماء الشعرية العربية، إن لم يكن أهمّها!

بدا لي الشاعر عقلاً مسكوناً بالغيب، وقلباً متخمَاً بالحدْس الشعري والطُّفولة الجنوبيّة، بمُناخها الكربلائيّ والطّقوس الاجتماعيّة، مسكوناً بهاجس المعرفة وتبِعةِ التّثقُّفِ والوجد الدّينيّ الفطريّ، كلُّ هذا في إطار لُغَوِيّ استفاد من معطيات التّراث ومفرداته، ورموز الأدب العرفانيّ الصّوفيّ، في أسلوبٍ يتّسم بكثيرٍ من الانزياح والإيجاز ورشاقة الصِّياغة وبداهتها، ومواقفَ خاصّةٍ من ظواهرِ الوجود. فضلاً عن مُواكَبَتِهِ، الّتي تنعكس في كتاباته، طروحاتِ الحداثة الشّعريّة وإشكاليّاتِها وثقافتَها. هذه الخلفيّاتُ والمشاربُ الفِكريّةُ المُتعدِّدة، أَوحَت إليّ بأنّها يمكن أنْ تؤسِّسَ لرؤيةٍ شاملةٍ للشّاعر، ووجود نزعةٍ ما تقف خلف هذه الرؤية المؤسَّسة على بُنى دلاليّة معرفيّة، هي الّتي تُشكِّل بُنًى فكريّة لهذه الرُّؤية.
الشّاعر شمس الدّين عايش وعاينَ، في منتصف القرن العشرين، إرهاصاتِ التّيارات الشّعريّة الحديثة، من قصيدة التّفعيلة إلى قصيدة النّثر. وكانت له قراءات عديدة وآراء محدّدة لشكل القصيدة العربيّة، بالإضافة إلى أنّ للشّاعر مواقفَ ووجهاتِ نظرٍ في معظم موضوعات الحداثة وإشكاليّاتها، ما وَسَمه بفرادةٍ ما، حيث غَلبَتْ على شخصيّته الأدبيّة صفةُ النّاقد أيضاً.

برحيلِه نقف أمام القصيدة العربية وحركتها التعبيرية، يقودنا التفكير أكثر بالمواظبة على صناعة هويتنا الشعرية. وكصديقٍ قريبٍ منه، أستطيع نقل صفات شخصية اتّسم بها، أبرزها القراءة المستمرة، وحبّ النقاش، والاستماع إلى معظم التجارب والأصوات الشعرية الجديدة.

الحبرُ ليس أعمى، الشاعرُ يجعلهُ يرى
د. كميل حمادة – شاعر وناقد لبناني

(1)
سألتُهُ
وكان مثلي ينحني على الورقْ
أما سئمتَ الانحناءْ
فقال: في انحناءتي أرى السماء

(2)
إذا البحارُ أغطشتْ
وسال حبرُ اللّيل في مفاصل المياه
تحرّكت أصابعي

(3)

الحبرُ ليس أعمى – (محمد علي شمس الدين، النازلون على الريح، ص 119.)

يُجري محمد علي شمس الدين في القصيدة حواراً بينه وبين الشاعر الذي فيه، فتصير القصيدة مونولوجاً مزدوجاً، أو محاولةَ استقراءٍ للشاعر في داخله. لكنَّ هذا الانفصال لا يعدو كونَه وهميّاً؛ فالضمير العائد إلى الآخر الشاعر لا يظهر إلا مرةً واحدةً فحسب (سألتُهُ)، وهي المرّة الوحيدة التي يظهر فيها ضمير المتكلّم، التاء في (سألتُهُ)، العائد إلى شمس الدين. وورود الضميرين لمرّة واحدة متلازمين هي إشارة إلى تلازم السائل والمسؤول، تلازم شمس الدين والشاعر الداخليّ المُحاوَر، ولا تعدو لفظة (مثلي) كونها محاولة احتيال وإيهام بالانفصال، لتدلَّ في حقيقتها على التلازم والتوحّد بين الرؤيتين. ثم تكرُّ سبحة ضمير المتكلّم لتصبح القصيدة تداعياً حُرّاً لشمس الدين، ليقدِّم رؤيته إلى الشّعر من خلال قناع الشاعر المجهول، إنّه صوت شمس الدين متوارياً خلف الشاعر المطلق.
وتتجلّى ثلاثيّة (الورق / الحبر/ الأصابع) في مقابل ثلاثيّة أخرى هي (السماء /أرى / العتم)، وما يربط بين الثلاثيتين هو الانحناء، الذي تكرَّر في القصيدة ثلاث مرّات (الانحناء – انحناءتي- انحني).

فيصبح (الورق والحبر والأصابع)، بدلالتها على الشّعر، وسيلةً لرؤية السماء، ولكشف الغيب، واكتناه المجهول، ويصبح الشعر(الانحناء على الورق) تجاوزاً للحُجُب وولوجاً في الحقائق المُغلقة.

وفعل الانحناء الذي تكرّر ثلاث مرّات، والذي يتماهى مع فكرة السجود، يقدِّم إلينا فعلَ الكتابة طقساً سجوديّاً مقدَّساً. كما يضعنا في تصوّر ذهنيّ عكسيّ لصورة الفعل (أنحني)؛ فالانحناء إلى أسفل، ورؤية السماء إلى أعلى، فينقلب الانحناء على الورق – أي فعل الكتابة الشعريّة – تحديقاً في (الأعلى) (الغيبيّ المحتجب)، وسموّاً إلى الـ (فوق)؛ فالشعر ارتفاع وعروج للولوج من شقِّ الغيب، أو جرحه (كما يسمّيه شمس الدين)، هو تلك النافذة النازفة، الشعر نفاذٌ إلى السماء، ورؤية واضحة لما وراءها.

وإذا كان النبيّ يتلقّى معرفة الغيب (النبوّة) من أعلى (من السماء)، فإنّ الشاعر ينحني على الورق ليرى السماء إنّه، إذاً، أعلى مقاماً: السماء ترتفع إليه، وهو ينحني إليها، لا كما هي حال النبيّ في علاقته بالغيب والسماء. وهذه إشارة إلى أنّ الغيب محتجِب في داخل الشاعر، في حين هو محتجِب في (خارج) النبيّ. وتالياً، يتساوى الشاعر والنبيّ في معرفة الأسرار ورؤية السماء، لكنّ الشاعر يتفرّد في أنّ السماء تأتيه من أسفل، أمّا النبيَّ فتأتيه من أعلى. في النبوّة “يهبط” الوحي، وفي الشعر “يصعد” الوحي.

هكذا يقلب شمس الدين ثنائيّة النبيّ/ الشاعر، ليحلّ الشاعر طرفاً أعلى في الثنائيّة. فيصير الشاعر أشدّ رؤيةً وأصدق رؤيا، وأوضح هدياً وسبيلاً، ولا سيّما إذا أغطشت البحار، وإذا اعتكرت الرؤية، وأظلم الأفق، وانسدل الليل، واحتارت العيون.

أتُراهُ يقلب اتّهام النبيّ بالشعر؟ أم تراه يقول إنّه كان ينبغي له؟

ذكرياتُ الجميل والنّحيل
حسن المقداد – شاعر لبناني


“أناديك يا ملكي وحبيبي”.

الحزنُ الذي يثقبُ القلبَ يُوسِعُ النشوة، والقُبلة التي تجرحُ الفمَ توتّرُ الذّاكرة، والناسُ للعملِ وللخيبة، أمّا الشاعر فللصّبابة للبلبلِ وللملكوت.

غادرَ محمد علي شمس الدين، وصلت نسمةُ صيف، آخرَ الصيف، دَعَتهُ ليتبعَ الطيور، ثمَّ ذقنا لأوّلِ مرّةٍ عند قبرهِ، في عربصاليم، طعمَ الشّمسِ المرّة.

كان “شمس” قريباً من كلِّ شاعر، وكنّا شباباً نبحثُ عن أنفسنا في عالمٍ لهُ فيه عرشٌ ومملكة. في بعلبك عام 2018، بعد مهرجانٍ شعريٍّ كان ضيف الشرف فيه، جلسَ يتحدّثُ عن الشّعرِ بحماسٍ مذهل، بدا يحبُّهُ ساخناً وذكيّاً ومراوغاً ونرجسيّاً، وحين يسمعهُ من فمِ شاعرٍ تزهرُ أساريرُه، ويستحسن، وربّما قال “حلو” او علّق تعليقاً عفويّاً منفعلاً.

وأعرفُ أنّهُ كان مسكوناً بخوفٍ غريب من فكرةِ أن يكونَ “آخر الشعراء”، كانت فكرةً نرجسيّةً تعمّقُ وحشتهُ الكونيّة ربّما، وتشعرُهُ بالوحدةِ والتيه، لذلك كان يبتهجُ كلّما اكتشفَ شاعراً شابّاً، يتحدّثُ عنهُ حديثَ المُحبِّ العارف، ويذكرُ من شعرهِ شيئاً، كانت ذاكرتهُ حادّةً وحسيّة.

في لقاءٍ جميلٍ طويلٍ في منزله، طلبَ منّي أن أقرأ قصيدةً بعينها، قال أسمعني قصيدتك التي أوّلُها “لا تخسريني الآن”، وكان يحفظُ منها أبياتاً، وعلّقَ مرّةً بعد أن قرأتُ قصيدةَ موضوعٍ أمامهُ: “هذهِ أحسنُ في رؤيتها وحرارتِها من قصيدةِ فلان وفلان”، وعنى شاعرين راحلَين كتبا في نفس الموضوع، ثمَّ كرّرَ هذا التعليق في غير مناسبة، وفصّل واستطردَ وأسهب.
ما الشّعرُ إلا اتّساعُ الذاكرة؟

لم يكن “شمس” متكبّراً ولا متواضعاً، كانَ حقيقيّاً، فارساً من زمنِ الشعراء الفرسان، أنيقاً يحبُّ البذلات وتنسيق الألوانِ والسّاعات، يحبُّ أن يبدو جميلاً ولافتاً، وكانَ ينجحُ في ذلك دائماً.

في الشعر وعلى المنبرِ هو ملك، لا يتأخّرُ أو يهتزُّ أو يتلعثم، يعرفُ ما يفعل، يحرّكُ خطواتهِ بدقّة ورشاقةٍ على حبل الإيقاع، حاملاً صرّةَ المعنى التي اتّسعت لممالكَ عالية بناها من خيالهِ ورؤاه، لا تضرب فيها أعناق الملوك، وهوَ إن عارضَ هنا المتنبّي، فإنهُ في موضعٍ آخر وضع “حاشية على معلّقة امرئ القيس”.

بعينينِ خضراوين نظرَ إلى الأفق، وجدَ أنَّ الوقتَ ملائمٌ للرّحيل، فرحل.

أعترفُ أنني بكيتُ دمعتين، حين شاهدتُ تسجيل قصيدتهِ “دموع الحلّاج”، من أمسيةٍ للملتقى الثقافيّ اللبنانيّ عام 2019 كنتُ حاضراً فيها، اجتمعت كلُّ ذكرياتِ الجميل والنحيل، في عبارةٍ أخيرة “خفّف من وقعِ جمالك فوق فمي”، فبكيت.

“لا أريدُ الآن أن أعلنَ ما أخفي
وأن أُبدي ارتيابي
ربّما ينقلُني الماء من الطينِ
ومن أصلِ عذابي
لأرى في الضّفّة الأخرى من النّهرِ سلاماً
وأرى أنَّ إلهي
كان خوفي”

أخبرنا حين تستطيع عن سلام الضفّة الأخرى، وابتسم للخائفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى