محمد الماغوط: الأب العصيّ على القتل
على الرغم من صمته الشعري المبكّر، إلا أنَّ قصيدة محمد الماغوط ما تزال حاضرةً ومؤثّرةً في الشعراء الجدد حتى اليوم. ماذا تعرفون عن "أبو قصيدة النثر العربية"؟
ليس ثمّة أفضل من كلام شريكة حياته لتصف لنا مأساة محمد الماغوط، وتضع الإصبع على الجرح الغائر في وجدانه، خاصَّة إذا كانت هي بدورها شاعرةً.
تقول سنية صالح في تقديمها للأعمال الشعرية الكاملة لزوجها، إنّ مأساة محمد الماغوط تتمثّل في أنّه “وُلِدَ في غرفةٍ مُسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط، ومنذ مجموعته الأولى “حزن في ضوء القمر” وهو يحاول إيجاد بعض الكوى، أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسّم بعض الحرية، وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع، وحيداً، لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر”.
تورد “الشاعرة المظلومة”، بحسب وصفه لتأثير حياتها معه على شعرها، كذلك فرضيةً مشابهةً لما طرحه المفكّر إدوارد سعيد، في مقالته “النثر والنثر القصصي العربي بعد 1948″، حول الماضي والحاضر والمستقبل، حيث تقول: “لنفترض أنّ الشرق العربي بقعة سوداء على خريطة الماضي والحاضر، فما يكون لون المستقبل؟ ولنبحث بعد ذلك عن مصير الشعر والشعراء من خلال ذلك الظلام الدامس. إذا ما استعملنا ضوء الذاكرة وجدنا أنّ محمد الماغوط، في وجه من الوجوه، جزءٌ من المستقبل، لذا لا بد من حمايته من غبار الحاضر”. الحاضر “المتبعثر” كما قال إدوارد سعيد، والماضي المتفكك، والمستقبل الغائب. “ولأنّ هذا الشاعر محترق بنيران الماضي والحاضر”، تُكمل سنية، “لجأ إلى نيران المستقبل، وهو جزءٌ منها، بحثاً عن وجودٍ آخر وكينونةٍ أخرى”.
“اغتصاب كان وأخواتها” من قِبل “سنونو الضجر”
حرّر الكاتب والصحافي خليل صويلح حواراتٍ مع محمد الماغوط عام 2002، تحت عنوان “اغتصاب كان وأخواتها”، لم يوافق “أبو قصيدة النثر العربية” على إجرائها بسهولة، ذلك قبل أن يعود صويلح إلى الماغوط مرةً ثانيةً في كتاب أصدرته الأمانة العامة لاحتفالية “دمشق عاصمة الثقافة العربية” عام 2008، بعنوان “سنونو الضجر”.
يقدّم صويلح “اغتصاب كان وأخواتها” بتساؤلاتٍ شبيهةٍ بتلك التي وضعها الشاعر بابلو نيرودا في كتاب “التساؤلات”، أهمّها: “ما الذي فعله محمد الماغوط بنا؟”.
ويتابع: “كيف صار لهذا الشاعر المتشرد على الأرصفة أن يصنع للعراة تاجاً من الوحول، وأجنحةً للحلم والتمرد؟ من أي منجمٍ عميقٍ نبش كل هذه الكنوز من الآلام والشكوى والمرارة؟ ومن أي فاكهةٍ غامضةٍ، اخترع كلَّ هذه الكيمياء من عصير الحياة المُرّة؟ وكيف صنع من عجينة الموت اليومي، كلَّ هذه التماثيل، مثل خزّاف سومريّ ذاهب إلى الأبدية؟”.
اخترع الماغوط معادلةً جديدةً للشعر، لا تشبه أيّة معادلة أخرى. يكتب صويلح: “كان على أسلاف الخليل بن أحمد الفراهيدي أن يخترعوا بحراً آخر بلا ضفاف، وأن يحنوا رؤوسهم أمام قصائد الماغوط المتمرد على كل البحور والأوزان… أما الماغوط نفسه، فلم يعبأ بآراء النقاد بما كان يكتب، ولم يلتفت إلا إلى صوت روحه، وصخب أضلاعه ودمار دورته الدموية، وكان كلما وجد نفسه في برواز يقوم بتحطيمه، لأنه ولد في العراء حيث لا شيء نهائياً في مفازة السراب”.
إنّ رحلة محمد الماغوط الطويلة جداً في صحراء الشعر العربي، يمكن إيجازها بعبارة كتبها الشاعر البحريني قاسم حداد في كتابه “الأزرق المستحيل”، يقول فيها: “كان وحيداً جداً في تلك الصحراء، لدرجة أنه كان يمشي أحياناً إلى الوراء كي يرى أمامه على الرمل أثراً ما”.
تجرية شعرية دائمة الاستعادة
استعارت الفنون العالمية، ومنها الأدب، فكرة قتل الأب الرمزي الذي استولى على الجنس (الرواية أو غيرها)، وتربّع عليه، وأصبح من الضروري احتلال مكانه حتى لا يبقى هو الوحيد المستمر في الأبدية.
يكتب الروائي واسيني الأعرج عن فكرة عزل الأب المهيمن أو تحييده أو قتله، أنها “تحمل في معناها الجوهري تقاسم مساحات الأبدية التي بدأت تضيق لكثرة من يبرزون في هذا المجال، في ظل الانفجار الإعلامي والتواصلي، وفي ظل عالم أصبح معقّداً، تحكمه السوق ورأس المال والبيع والشراء. وفي هذا يجدّ الباحثون عن الأبدية من الكُتّاب والفنانين الشباب، رغبةً في القتل وصعوبةً في فرض النفس والاختراق، تمهيداً لخوض معركة الأب. لأنَّ واحدة من قواعد قتل الأب، وربما أهمها، هي أن تكون على الأقل في مستوى الأب إبداعياً”.
ويقدِّم الأعرج مارسيل بروست كمثالٍ على قتل الأب في الأدب، من خلال سُباعيته “البحث عن الزمن المفقود”، التي قَطع من خلالها مع الأدب الكلاسيكي الفرنسي خاصَّةً، والأوروبي عامّةً.
أمام تجربة الماغوط، تبدو فكرة “قتل الأب” صعبةً تماماً، ذلك أنّه على الرغم من خصوصية هذه التجربة الشعرية، فإنَّ أجيالاً كاملة من الشعراء، في سوريا وفي بلدان عربية أخرى، تأثرت بها بشدّة، من مجايلي الماغوط وممّن أتوا بعده حتى اليوم، إن لناحية الصورة الشعرية ودورها في تقوية الفكرة وترسيخها، أو لناحية قوة الألفاظ وخشونتها وبالتالي أثرها. وربما لهذه الأسباب، “تتفق كل الأجيال الشعرية التي جاءت من بعده على أنه الأب الشرعي الوحيد لقصيدة النثر العربية، وإذا كانت مقولة قتل الأب مسألة مشروعة في الإبداع، إلا أنها مع تجربة محمد الماغوط تبدو مسألة خاسرة حتماً”، كما يقول خليل صويلح في كتابه “محمد الماغوط، سنونو الضجر”.
وصف قاسم حداد محمد الماغوط، بأنّه “كائنٌ وحشيٌّ طافرٌ من غابةٍ تغرس جذورها على أجسادنا وأرواحنا، من دون أن يعبأ أو يكترث بالكلام عن البدائل، بمعنى أنه لا يطرح خطابات أحلام، كما كان يفعل شعر الآخرين، الأمر الذي لفت نظر الشعراء العرب، محاولين أن يجدوا في عالمه نافذة على أفق مغاير”.
لكن، بعد ذلك كله، وبعد حوالى جيلين من الشعراء العرب، يسأل حداد: “هل يمكننا الزعم بأنّ الأجيال الجديدة، وهي تطرح علينا الصوت عن الحداثة والتجديد في الكتابة الشعرية، منافحةً عن حقها في التجديد، محتجّةً بمن سبقها من الشعراء، ومن بينهم محمد الماغوط خصوصاً، هل قرأت هذه الأجيال الجديدة حقاً تجربة محمد الماغوط الشعرية بالشكل الذي يجب على الشاعر أن يكتشف تجربة شاعرٍ آخر؟”
ما يزيد الأمر صعوبة، أنّ هذا الأب نفسه قال إنه لم يكن يعرف أنّ نص “القتل” الذي جعله شاعراً كان قصيدة. بل قال إنه كتبه كي يكتب، وجاء الشعر.
يوضح ذلك الروائي اللبناني الياس خوري، بقوله: “أما كيف ولماذا فالماغوط لا يدري، وظلّ لا يدري حتى مات مستلقياً على الأريكة والسيكارة في يده”.
أصيل بين مبهورين بالغرب
ما يزيد أمر الماغوط صعوبةً، أنّ تجربته ليست فريدةً أو غريبةً فحسب، بل تبدو فانتازيةً في مُجملها. فمنذ دخل بيروت في منتصف خمسينيات القرن العشرين، متأبطاً قصيدته الطويلة “القتل”، التي كتبها على ورق سجائر لف في المعتقل، أحدث اسمه بلبلةً في المشهد الشعري العربي، ليس بين صفوف شعراء التفعيلة فحسب، بل داخل صفوف جماعة الحداثة أنفسهم، إذ كانت مجلة “شعر” تعدّ نفسها حاملةً مشروع الحداثة العربية وقصيدة النثر على وجه الخصوص.
بدأت التجربة حين قدّمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة “شعر” المكتظّة بالوافدين، وقرأ لهم بعض نتاجه الجديد الغريب بصوتٍ رخيمٍ، من دون أن يعلن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون: “بودلير؟… رامبو؟…”، لكنَّ أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر، وقال: “هو الشاعر”.
هجر الماغوط جماعة مجلة “شعر”، بعد خلافات أدبية نشبت بينه وبينها، حيث كان مأخذه الأساس على شعرائها انبهارهم بالغرب على نحوٍ مُضخَّمٍ، في حين كان هو باعتراف أكثر من شاعر منهم، أمثال أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، عنواناً للأصالة.
كتب الماغوط مقالةً قاسيةً في جريدة “الأنوار”، عام 1962، عن مجلة “شعر” بعد انفصاله عنها، بعنوان “نخبة مجلة “شعر””، يقول في جزءٍ منها: “وإذا أمعنّا النظر في محيطنا الأدبي المترامي الأطراف، لوجدنا أنَّ “النخبة” الوحيدة التي تعتز بهذا المرض (التأثّر الأعمى بالغرب) وتدافع عنه وتنمّيه هي نخبة مجلة “شعر”. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي… يسقط مغمياً عليه، بينما قل له ولو على مسافة كيلومتر: جاك بريفيير… فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض، كأنّه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأن هذا غربي، وذاك عربي! إنّ الذي خلق هذا الشعور وغذّاه هم جماعة مجلة “شعر” أنفسهم: العلة ليست أبداً في التراث بقدر ما هي في النفوس، في نفوسهم هم، بارزةً بكلِّ وضوحٍ في أشعارهم وأحاديثم وسكسوكاتهم!”.
“البدوي الأحمر” يرتحل مرة أخيرة
اختار محمد الماغوط، قبل رحيله بأشهر، عنوان “البدوي الأحمر” لكتابه الأخير، وهو اللقب الذي يصحّ أن يُطلق عليه، إذ يعكس الغربة الأبدية التي ظلَّ يعيشها حتى وفاته في 3 نيسان/أبريل من العام 2006.
بالعودة إلى تجربته الشعرية، فقد اقتصرت على 3 مجموعات فقط، أحدثت صخباً هائلاً، أصدرها في أعوام 1959 و1960 و1970، وصمت بعدها عن الشعر بشكلٍ مبكّرٍ، على الرغم من كل المديح الذي واكب حضوره المتفرّد والاستثنائي، ليضع قصيدته على رفٍّ خاصٍّ في المكتبة العربية.
لقد اتفق أصدقاء قصيدة النثر ومعاديها على شاعرية الماغوط دون غيره من الشعراء، وظلّ لذلك بمنأى عن الحروب الطاحنة، ولم يُدخل نفسه في السجالات النقدية والنظرية حول شرعية ما يكتب. وحين كثرت الكتابات النقدية حول شعره، تشبث بعفويته وراح يؤكّد بشكلٍ صريحٍ أنّه لم يكمل تعليمه، ولم يطّلع بالتالي على خزائن الحداثة كي يغرف منها نصوصه.
إنّ خصوصية التجربة إذن، وفرادة شاعرها، هي ما تجعله أباً عصياً على القتل. وثمّة في هذه التجربة الشعرية ما هو غريب وعجائبي وسحري، إذ إننا نرجع إليها كما يَرجعُ الابن الضال، عبر طريقٍ أو آخر.
المصدر : الميادين. نت