وجه سميح القاسم: بلغ بنا الحزنُ سنَّ الرجولة

عرفه الناس من قصيدته، "منتصب القامة أمشي"، لكنّه في شعره أبعد، وترك إرثاً كبيراً ومساحات واسعة من التجريب لآخرين من بعده. من هو سميح القاسم؟


من أيار/مايو، شهر ولادته في الزرقاء في الأردن عام 1939، إلى آب/أغسطس، شهر وفاته في صفد في فلسطين المحتلّة عام 2014، تبدو حياة سميح القاسم رحلةً بين الربيع والصيف. لم يصل صاحب “دخان البراكين” إلى الخريف أبداً. بقي مشتعلاً حماسيّاً، فارساً حتّى النهاية، وترجّل عن صهوة الماديِّ إلى ساحةِ الأبديّةِ كرمزٍ للعنفوانِ والسّخونة في الشعر العربيّ المعاصر للمأساة:

للذي تقصف طياراته حلم الطفولة
للذي يكسر أقواس قزح..
يعلن الليلة أطفال الجذور المستحيلة
يعلن الليلة أطفال رفح..
نحن لم نبصق على وجه قتيلة
بعد أن ننزع أسنان الذهب
فلماذا تأخذ الحلوى وتُعطينا القنابل
ولماذا تحملُ اليُتمَ لأطفال العرب
بلغ الحزن بنا سن الرجولة..!
وعلينا أن نقاتل..

هكذا يصمدُ سميح القاسم بالحزن العنيد، ويُمضي حياته في الأراضي المحتلّة رافضاً المغادرة. هو المولود في الزرقاء، شرقيّ الأردن لأبٍ “كابتن” في القوات الحدودية، كانت خدمتُهُ هناك، بينما تعود أصوله إلى قرية الرامة (من رام: الأرض العالية؛ آراميّة) في جبال الجليل، قريباً من مدينة عكّا. ويزعم بعض شيوخ العائلة أن نسبهم يرجع إلى أحد فرسان القرامطة، الذين أتوا من شبه الجزيرة العربيّة لمقاتلة الصليبيّين، واستقرّوا وأنشأوا القرى في مقابل مستوطنات الروم عند سفوح الجبال. والرّامة واحدةٌ من هذه القرى، وهي التي نشأ فيها سميح القاسم عقب عودة عائلته إلى فلسطين مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية.

النكبة، جيل الرفض الأوّل

سميح القاسم ومحمود درويش يتوسطهما الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري

انقضت الحربُ العالميّةُ الثانية مسفرةً عن واقعٍ جديد وكيانٍ مستحدثٍ بمشيئةٍ غربيّة في أراضي فلسطين التاريخيّة. رأى سميح، الصبيُّ وقتها، جبروت المستعمرِ، فأنفت فروسيّته المبكرة وأعلن الرفض، ثمَّ كان أحد الذين بشّر بهم غسان كنفاني في كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1967” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية – 1968)، إلى جانب محمود درويش وتوفيق زياد وغيرهم، بصفتهم الرعيل الأول لشعراء القضيّة الفلسطينيّة والإنسان الفلسطيني.

أوّلُ تحدٍّ لسميح القاسم في بلاده المحتلّة كان بعد إنهائه دراسته الثانوية في الناصرة، بحيث فرضت حكومة الاحتلال قانون التجنيد الإجباري على أبناء الطائفة الدرزية، التي ينتمي إليها، عام 1956. رفض سميح القاسم بوضوحٍ وشدّةٍ هذا القانون، وقام بتشكيل أول تنظيم سياسي معارض لتجنيد الشبان الدروز، باسم “الشبّان الأحرار”، وما لبث أن اعتُقل ليُمضيَ خدمتهُ في الأشغال الشاقّة، متنقّلاً بين مختلف سجون العدو، حتّى أرهق سلطات الاحتلال بسبب مشاكله، فسرّحَتهُ وقفل عائداً مع عائلته إلى الرامة.

لكنَّ هذه كانت البداية فقط، فلقد اعتُقلَ القاسم ووُضِع تحت الإقامة الجبريّة عدة مراتٍ، لأسباب شتّى، تتعلّق بمواقفه وشعره. كما صودرت مجموعاته الشعرية، وضيّقت سلطات الاحتلال الخناق عليه، ووصلته تهديدات بهدفِ إسكاته أو إخراجه من فلسطين. غادر صديقه الأقرب محمود درويش البلاد بعد حين تحت الضغط وانعدام الحيلة، لكنَّ سميح أبى واستمر. وعلى الرغم من أنه زار معظم البلاد العربيّة، فإنه كان يعود كلَّ مرّةٍ إلى أرض أجداده ووطنه الوحيد.

يُذكَرُ أن الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، كان اعترض على مصادرة إحدى مجموعات القاسم الشعريّة، “ويكون أن يأتي طائر الرعد – 1969″، خلال زيارته الأراضي المحتلة.

القاسم ودرويش.. شقّا البرتقالة الفلسطينيّة

“هل تذكر كيف استولينا على مضافة أبي العليا وحوّلناها بلا استئذان إلى منتدى ثقافي لثلّة من الشبان المدجّجين بدواوين علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وأبي القاسم الشابي وكتابات جبران؟ هل تذكر ذلك الشابّ الذي حاصرنا وأمطرنا بوابل من قصائده حتى ضقنا ذرعاً فتهامسنا: اللهمّ اجعلْ هذه الليلة خيراً… فهذا الفتى قد تأبط شعراً! ما كان النوم متاحاً إلّا في ساعة متأخرة من الليل أو في أختها المبكّرة من النهار… وآنذاك شددتَ اللحاف إلى ما تحت أنفك مودّعاً: بخاطرك”.

كان هذا مقطعاً من رسالةٍ أرسلها سميح القاسم من حيفا إلى صديقه محمود درويش في باريس، وهي واحدةٌ من 39 رسالة متبادلة بين الشاعرين، نُشِرَت في مجلة “اليوم السابع”، أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وصدرت، بالإضافة إلى قصيدتين، في كتاب بعنوان “الرسائل” (دار العودة – 1990).

علاقة الشاعرين، التي تكاد تكون فريدة في تاريخ الأدب العربي على الأقل، بدأت منذ الصِّبا، وتحديداً سنة 1958، وهي السنة التي أصدر خلالها القاسم بعد تخرّجه من الثانوية مجموعته الشعرية الأولى: “مواكب الشمس”.

يروي القاسم قصّة اللقاء الأول، في مقابلة صحافيّة، قائلاً: “بعد إصدار ديواني الأول، تلقيت رسالة من طلاب من مدرسة ثانوية يني يني في كفر ياسيف، قالوا لي إنهم قرأوا مجموعتي الشعرية، وأُعجبوا بها، ويريدون زيارتي والتعرف إليّ. وكان بين الموقّعين محمود درويش، محمد علي طه، وسالم جبران، وكلهم تحولوا مستقبلاً إلى شعراء وكتّاب كبار، فرددتُ عليهم برسالة رحّبت بهم، فزاروني في بيتي في الرامة، كنت أكبر منهم بعامين، لذا تخرجت من الثانوية قبلهم. تعرّفنا إلى بعضنا البعض، وأمضوا ذلك اليوم في بيت أسرتي، وباتوا عندنا، وبقينا طوال الليل نتحدث في الشعر والأدب. وعلى سبيل المداعبة، قلت لمحمود درويش: أنت يا شاب لديك حساسية “شيلي”، قاصداً الشاعر الإنكليزي شيلي، فقال لي: وأنت عندك عنفوان “بيرون”. ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين طوال الأعوام الـ50 الفائتة”.

لا ينكر القاسم أن علاقتهما، التي أشار إليها درويش بصفتها أقوى من الحب، في إحدى الرسائل، لم تكن على حالٍ واحدة دائماً، بل شابتها خلافات سياسية وفكريّةٌ، وخلافات بسبب امرأة في بعضِ الأحيان، وفي هذا إشارة لطيفة.

في قصيدة جميلة بعنوان “أسمّيكَ نرجسةً حول قلبي”، يخاطب درويش القاسم متسائلاً:

“أما زلتَ تؤمن أن القصائد أقوى من الطائراتْ؟
إذن، كيف لم يستطع
أمرؤ القيسِ فينا مواجهة المذبحهْ؟
سؤالي غلطْ
لأنَّ جروحي صحيحهْ
ونطقي صحيحٌ، وحبري صحيحٌ، وروحي فضيحهْ
أما كان من حَقِّنا أن نكرّس للخيل بعضَ القصائد قبلَ انتحار القريحهْ؟
سؤالي غلطْ
لأني نمطْ
وبعد دقائقَ أشربُ نخبي ونخبكَ من أجل عامٍ سعيدٍ جديدٍ
جديدٍ سعيدْ”.

منتصب القامة يمشي

بعد تنقّلهِ بين مهنٍ متعدّدةٍ في شبابه، استقرَّ صاحبُ “كتاب القدس” معظمَ حياتهِ في عالمِ الصحافة والأدب، فكتب وحرّرَ وأدار عدداً من الصحف والمجلّات ودور النشر في فلسطين المحتلة. وأصدر، طوال مسيرته، أكثر من 60 كتاباً، بين مجموعة شعريّة ومجموعة قصصية وكتاب نثري ورواية. كما ترأّسَ “اتحاد الكتّاب العرب” و”الاتحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيين” في فلسطين المحتلة منذ تأسيسهما.

شعرُ سميح القاسم تركيبةُ إيقاعٍ عالٍ وسخونةٍ متواصلة وفروسيّةٍ صريحة وجرأةٍ في التجريب وعمقٍ في الموضوع، منطلقاً من الأسطورة ومتكئاً عليها “يقفُ وحيداً على ملامحِ ما بعد الحداثة”، كما ترى الشاعرة والناقدة الفلسطينية، سلمى الخضراء الجيوسي.

ربّما يكون أكثر ما طرق مسامع الناس من شعر القاسم قصيدته “منتصب القامة أمشي”، التي غنّاها الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وهي جميلة، لكنّه في شعره أبعد، فهو مجرّب مثقّف مكثر اوركسترالي متصاعد، وترك إرثاً كبيراً ومساحات واسعة من التجريب لآخرين من بعده، ورحل منتصب القامة بعد صراع طويل مع المرض، في آب/أغسطس، في الشهر ذاته الذي رحل فيه صديقه درويش قبله بأعوام:

“وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ..”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى