عامان على رحيل “آخر الخوارج”: رياض نجيب الريّس
أصبح أيقونة ثقافية للدفاع عن الحرية ومشاكسة النمط.. من هو السوري رياض نجيب الريس؟
في 26 من شهر أيلول/سبتمبر عام 2020 تمكن فيروس “كورونا” من جسد رياض نجيب الريس المتعب، فغادر الصحافي العنيد المتقاعد والناشر الحر المتجاوز، صديق الشعراء والكتاب وصاحب “موت الآخرين”، بعد حياة حافلة امتدت إلى 83 عاماً، ربما دفن كثير من أسرارها مع صاحبها.
لكن ما تسرب يكفي ليبدو رياض الريس، كلما اتسع غيابه، أيقونةً ثقافيةً للنهوض بالرؤية العربية والدفاع الشرس عن الحرية والتجاوز ومشاكسة النمط. ناشراً من زمن جميل حدّثنا عنه ولم نره، ينشر ما يخشى غيره نشره، ويقدر الكتاب من كل الأجيال، كل بحسب قيمة إنتاجه المعرفية والجمالية، “ناشر حقيقي وليس طابع كتب وحسب”، هكذا كان يحب أن يصف نفسه، وهكذا كان.
صحافي المسافات الطويلة
في دمشق عام 1937 ولد لمؤسس جريدة القبس الصحافي السوري الحموي نجيب الريس، طفل سمّاه “رياض” على اسم “رياض الصلح” أول رئيس حكومة في لبنان، والدة الطفل كانت سيدةً طرابلسية من أصول تركية هي “راسمة سمينة” وصفها ابنها لاحقاً بأنها كانت حادة الذكاء.
في مدرسة برمانا الداخلية في لبنان، وكانت مدرسةً ذات سمعة جيدة بين النخب خصوصاً أنها تتبع النمط الإنكليزي في التدريس على عكس معظم المدارس في ظل الانتداب الفرنسي، تلقى رياض تعليمه، وأظهر مبكراً عقليةً سياسية مشاكسة رافضة لسلطة الانتداب.
في أي حال، لم يكن هذا مستغرباً من ابن نجيب الريس الذي تنقل والده بين سجون الانتداب الفرنسي سنوات، ونفي إلى جزيرة أرواد حيث كتب أنشودته الشهيرة “يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلاما”، فلا شك في أنه أورث رياض شيئاً من عناده ونزوعه إلى الحرية، خصوصاً أن أولى خطوات الشاب الصحافية كانت من “القبس”، الجريدة التي أسسها والده وأدارها حتى وفاته، ثم وفاتها لاحقاً مع إعلان الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.
في هذا الوقت، وتحديداً في صيف عام 1956، كان رياض قد غادر دمشق إلى بريطانيا ليلتحق بجامعة كامبريدج، ويتعرّف هناك إلى مثقفين وكتاب وصحافيين، كخليل حاوي وتوفيق وأنيس صايغ وغيرهم، ساهموا جميعاً من خلال “رابطة الطلاب العرب” في المملكة المتحدة وإيرلندا في تطوير المجلة الطلابية التي تولى رياض تحريرها، لتستقطب مجموعة من الكتاب الأكاديميين العرب وتصبح أكثر منهجيةً وتخصصاً.
عودة رياض هذه المرة كانت إلى بيروت. تبع شغفه الصحافي وعمل مع الصحافي اللبناني سعيد فريحة محرراً للشؤون العربية في مجلة الصياد، لكنه بدأ مسيرته الفعلية مع مؤسس جريدة الحياة اللبنانية كامل مروة، الذي وفر له فرصة العمل كمراسل صحافي في فيتنام، وعن هذه المرحلة يقول الريس: “عملت مع كامل مروة قرابة سنتين، وكان له فضل في تكوين شخصيتي الصحافية.. علمني كامل مروة معنى حرية الرأي”.
مع اغتيال كامل مروة في بيروت عام 1966، انتقل الريس ليعمل في جريدة النهار مع غسان تويني الذي وصفه بأنه “أبرع مايسترو صحافي”، تنقّل في هذه الفترة بمهمات صحافية من سمرقند إلى براغ إلى اليمن والخليج وقبرص واليونان، وكتب فترةً للسفير اللبنانية، قبل أن يغادر بيروت إلى لندن مجدداً بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.
حزيناً ولكن غير محبط، أصدر رياض الريس في لندن عام 1977 جريدة “المنار” وكانت أول جريدة عربية تصدر في أوروبا، ثم ما لبث عام 1986 أن أسس في عاصمة الضباب، المشروع الذي أخذ حياته مسافةً طويلةً أخرى، فدخل عالم النشر من خلال “شركة رياض الريس للكتب والنشر” التي سرعان ما انتقل مركزها إلى بيروت في مغامرة خطرة، مباشرةً بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
رياض نجيب الريس الذي أصر على توقيع مقالاته باسمه الثلاثي، تدليلاً على ارتباط مسيرته الصحافية بمسيرة أبيه، أنشأ دار نشر باسم “رياض الريس” فقط، من هنا يبدأ فصل جديد من حياة “آخر الخوارج”.
شيخ الناشرين “الأحرار”
فشلت في تحقيق مشروعي الصحافي. فشلت في أن يكون لي دور ككاتب مؤثر في الصحافة اللبنانية. نجحت جزئياً كناشر. لكن هذا لا يرضيني. أنا صحافي. النشر هو وسيلة لتأمين العيش. هذا ندم مهني. ندمي الشخصي أكثر مرارةً بكثير. لقد عدت إلى بيروت بحنين عاشق إلى امرأة تركها ربع قرن، ظانّاً أن الزمن لم يغيرها. على الرغم من الصدمة، حاولت أن أغفر لها. ثمّ اكتشفت أن التغير أكبر من لهفتي وحنيني”.
يبدو رياض الريس محبطاً وغاضباً، في هذه الكلمات التي خطها بعد 20 عاماً على عودته إلى بيروت، ولا شك في أن الواقع الذي واجهه منذ عودته بمشروعه كناشر بعد الحرب الأهلية مؤمناً بوعود إعادة الإعمار وأحلام الإحياء الثقافي، إلى إصدار مجلة “الناقد” وتوقفها، ثم “النقاد” وتوقفها أيضاً، إلى محاولته الفاشلة إعادة إحياء “القبس” في دمشق عام 2000. لا شك في أن هذا الواقع كان محبطاً ومرهقاً لرجل فيه من سمات الشاعر، قبل أن يكون صحافياً وناشراً، ولكن هذا الإحباط لا يعبر أبداً عن الأثر العميق الذي تركه رياض نجيب الريس في عالم النشر والثقافة العربية.
منذ تأسيسها في “لندن” أراد رياض الريس لدار النشر التي حمّلها اسمه أن تكون عربيةً أولاً، فلم يعتنِ في انطلاقتها بالترجمة قدر اعتنائه باكتشاف الكتاب العرب، خصوصاً من الأجيال الجديدة، وكان الرائد في نشر الكتب الممنوعة، التي لم تجرؤ دور النشر الأخرى على تحمل تبعات نشرها، فمن نصوص أبي نواس المحرّمة، إلى مؤلفات الصادق النيهوم وفواز طرابلسي وزكريا تامر وفاضل الربيعي وغيرهم وصولاً إلى الشيخ النفزاوي وكتب التراث المثيرة للجدل، مروراً بشعر محمود درويش وجوزيف حرب ومحمد حسين فضل الله وآخرين، تربّعت منشورات رياض الريس على قمة المنشورات الحرة المتجاوزة، المعنية بالثقافة العربية وتطويرها، من دون اعتناء أو خوف من النظم الرجعية والتابوهات.
في السنوات الأخيرة من عمره عانى الريس من الفشل الكلوي، الذي أجبره على زيارة المستشفى 3 مرات أسبوعياً، فغرق في العزلة والصمت منذ العام 2011، في واحدة من أكثر الفترات حرجاً من تاريخ سوريا والمنطقة، ما ترك حسرةً عميقةً في قلب الطائر الأسطوري الذي بقيت روحه متوهجةً حتى النهاية.
وبهذا الصدد يروي الباحث والروائي اليمني علي المقري، قصةً بالغة الإشارة إلى طريقة عمل رياض الريس، وأسلوبه الفريد – وهو وصف مؤسف – في التعامل مع الكتاب وإنتاجاتهم، فيقول:
“تعرفت إلى الريس في صنعاء بداية التسعينيات، حيث كان اليمن من اهتماماته الصحافية والسياسية، فتناوله في كثير من كتبه، ومنذ ذلك اليوم كان يتعامل معي، وأنا الكاتب الناشئ، كصديق، فنشر لي مقالات في مجلة «الناقد»، كما وقّع معي عقد نشر كتابي «الخمر والنبيذ في الإسلام» عام 1996 على أن ينشر في العام الذي يليه، لكنه تراجع عن النشر بعد الحملة التكفيرية والتهديدات التي تلقيتها من المتطرّفين الإسلاميين، في أثناء نشر مقالات منه في «الجمهورية الثقافية» عام 1997، وطلب إلي أن أتفهم تراجعه «بحكم الصداقة» وأن أعتبر المبلغ الذي كان قد أرسله إلي كحقوق نشر مقدّماً لأي كتاب آخر، تجيد به قريحتي، بحسب تعبيره. لكنني لم أرسل إليه أي كتاب بعد ذلك إلى أن عاد وأصدر الكتاب عام 2007 بعد مراسلات بيننا”.
هكذا يبدو الريس إماماً للحرية لا ممارساً لها وحسب، تنويرياً مشجعاً للكتاب المشاكسين وداعياً لتفكيك المفاهيم التقليدية في اتجاه حركة حداثة عربية حقيقية، وفي هذا السياق أطلق جائزةً باسم صديقه الشاعر يوسف الخال للشعراء وجائزةً أخرى للروائيين، ورعى ودعم وقدم أسماء جديدة ومهمة للمكتبة العربية إضافة إلى آلاف العناوين اللافتة.
في السنوات الأخيرة من عمره عانى صاحب “مصاحف وسيوف” من مرض الفشل الكلوي، الذي أجبره على زيارة المستشفى 3 مرات في الأسبوع لغسيل الكلى، فغرق في العزلة والصمت منذ عام 2011، في واحدة من أكثر الفترات حرجاً من تاريخ سوريا والمنطقة، ما ترك حسرةً عميقةً في قلب الطائر الأسطوري الذي بقيت روحه متوهجةً حتى النهاية، ولكن جسده خذله.
نختم هذه الرحلة بمقتطف من مقال للريس عنوانه “غسيل الكلى السوري” نشره بعد إصابته بالمرض اللئيم، بالتوازي مع تدهور الأحداث في وطنه سوريا: “لقد طاردتني الصحافة وطردتني. وأنا بدوري لم أكفَّ عن مطاردتها. إلى أن كان سلام بيني وبينها، عندما غادرتها عام 2000 غير نادم، ولم أكن الكاتب الذي ينظر بعين الحسرة إلى مهنة في أوج تألقها. لقد تركت الجسم الصحافي عندما كان مريضاً فيما أنا بصحة جيدة. أما الآن فأشعر بأنني بحاجة إلى أن أكون صحافياً من دون أن أستطيع. أشعر بأن سوريا، كل سوريا، تمر في النهر من أمامي. وليس بمقدوري أن أعايش راهنها كصحافي، وليس أمامي إلا أن أكتفي بما حفظتْه ذاكرتي. لقد أزيلت أماكن وهدمت معالم وتوارى عن المشهد أناس عرفتهم ملياً. باتت سوريا مختزلة. كما لو أن ما يحدث في بلادي أتى ليكمل مشهد الموت الطويل الذي خبرته مذ كنت طفلاً، (موت الآخرين) في”.
الميادين