تولستوي.. ما معنى الحياة؟

تنازل عن كثير من ممتلكاته للفلاحين كي لا يظلوا عبيداً.. كيف أبصر تولستوي الله في قلبه؟


ليس يسيراً أن تنقذ ذاتك من فخ الحياة. ليس سهلاً أن تدرك نفسك جيداً وتعرف ماذا تريد. إنه أمر شائك جداً بحثك عن أسباب وجودك، وأن تقتنع بالهدف الذي تسعى لتحقيقه، أو بجدوى إدراكه. دوامة من التساؤلات كثيراً ما تسرقنا من واقعنا، وتلقينا في مهب الشك، ولن نقول العبث، فلا عبثية في الخلق والوجود. لكن ليف (ليو) نيقولايفيتش تولستوي (1828–1910)، أخذته الأفكار بعيداً باحثاً عن “الحقيقة”، منقباً عن رمق يبلل ظمأ روحه إلى معرفة الكون، والأسرار التي تدفعنا إلى البقاء على وجه هذه الأرض الملأى بالتناقضات، وهو الذي أرّقته غرائب الناس، وحملته على التفكر في نفوسهم وأحلامهم وهواجسهم.

هذا الرجل الذي ينتمي إلى عائلة نبيلة، ولديه كل ما يحلم به أي إنسان على وجه الأرض، لم تستطع المادة أن تقيده، بل تخلى عن كل شيء من أجل غايته، وحاول في مسيرته الطويلة الإجابة عن سؤال: “هل لحياتي من معنى يعجز عن القضاء عليه الموت الذي ينتظرني بفارغ الصبر؟”.

لم يكن القصد من ذلك هو نكران حياته مع أنه فكر غير مرة في الانتحار، لكنه أراد أن يعرف السبب الكامن وراء خلقه وعيشه من أجل الشعور بالراحة والسلام الداخلي، “فهو الرجاء الوحيد بالخلاص من الشقاء”، ولعل هذا ما بحثت عنه الفلسفة في تاريخها، جاهدةً في بلورة الغاية من الوصول إلى الله، والكشف عن مكامن الإنسان والكون الخفية والعصية على الفهم والاستيعاب المحدود بالنسبة إلى الطاقات البشرية.

في رحلة البحث هذه، لجأ تولستوي إلى وسائل كثيرة، وتوصل إلى قناعات عديدة، كأن تكون العائلة، أو الشعر والفن، أو القوة، أو الشهرة والمال، أو النمو الحاصل على جميع الصعد والمستويات الحياتية هي التي تبين المفهوم الحقيقي للحياة وسبب العيش. لكنها سرعان ما كانت تتلاشى أمام فكره الجامح إلى المعرفة، حتى ظن أنه قد يجد ضالته في اللجوء إلى العلوم النظرية والطبيعية، إلا أنها ظهرت محدودةً أيضاً، وهذا ما تحدث عنه في كتابه “اعتراف”: “للعلوم الطبيعية أهمية وضعية فائقة، لأنها تظهر لنا عظمة القوة الفكرية التي أعطيناها للبحث والدرس،على شرط ألا تخرج عن دائرة مباحثها المادية المجردة. وللعلوم النظرية أهمية كبيرة في الحياة، لأنها تظهر عظمة الكائن في فكر الإنسان، إذا حصره صاحبه في الدائرة المختصة به، ولم يذهب إلى ما ليس من خصائصه خارج حدود علوم ما وراء الطبيعة والفلسفة”.
لم يقتنع صاحب “الحرب والسلم” بكل هذا، حتى وصل إلى مرحلة اليأس. جاءت الخلاصة في إجابته عن سؤال “ما هي الحياة؟” حيث رأى أن المعرفة البشرية قاصرة عن الإجابة عنه، فكف عن السعي لتفسير كل شيء. إذ لا يمكن قياس ما وجده في المواضيع اللاهوتية على أساس الأمور العلمية على حد رأيه “أصل إلى غير المدرك فأرى وأفهم أنه غير مدرك وأرجع عنه من تلقاء ذاتي، وليس لأن الرجوع عنه محتّم علي أن أعمل به من غير درس ولا بحث”.

هنا نقرأ التسليم بمحدودية القدرات البشرية أمام قدرات الخالق، ليس لضعف في الفكر والسعي، إنما نتيجة إيمان عميق بأن الله الذي دبر كل شيء هو وحده القادر على تسيير الأمور كيفما يشاء، وهو الذي وضع أسباب الحياة في دواخل البشر “وهو الإيمان الذي يساعد الناس على الغبطة في الحياة”، شرط أن يخلصوا حياتهم من الشوائب والأخطاء والمعاصي، وأن ينظروا إلى النور الحقيقي لا أن يستسلموا للظلمة التي تغمر أيامهم، لأن الإنسان العاصي لم يتمكن يوماً من رؤية الحقيقة مهما حاول، فنورها ينبع من أعماقه الصادقة، وخلاص البشري يكون بالتقرب إلى الله وحده “وهو لا يستطيع أن يخلص نفسه إلا بالعمل بكلمة الله”.

إن قارئ كتابات تولستوي الروائية والفكرية والمتأمل فيها يرى ترسخ القيم والمبادئ والفضائل لديه. فقد رفض مبدأ الإقطاعية، وخالف ما قام به بعض رجال الدين من أعمال تسيء إلى الدين والأخلاق، ونقد في كتابه “في الدين والعقل والفلسفة” تلك الآراء الفلسفية التي ترد التعلق بالدين إلى الخوف من ظواهر الطبيعة غير المفهومة، بينما “العداء الحقيقي للدين يكمن في عدم الرغبة في اتباع النواميس الأخلاقية التي تحض على ضبط النفس”، فهذا الأمر له جذوره الأخلاقية.

نتيجة مواقفه اتهم صاحب “آنا كارنينا” بالكفر، فيما هو في الحقيقة كان يبصر الله بعين قلبه بعيداً من كل تلك الادعاءات الفارغة، ودعا إلى الصدق في القول والعمل، فواءم بين ما قرأه وتعلمه وبين تصرفاته، وتنازل عن كثير من ممتلكاته للفلاحين كي لا يظلوا عبيداً، وأنشأ المدارس في القرى والمزارع كي يتعلم أبناء الفقراء، ويروا النور الحيقيقي، ويقتلوا الظلم والجهل في عقولهم وقلوبهم.

رداً على اتهامه بالإلحاد، نورد ما ذكره تولستوي من أن “الدين يؤسس علاقة الإنسان بالعالم غير المحدود من حوله أو بخالقه، والأخلاق التي ترشد سلوكياتنا في الحياة تنبع من هذه العلاقة”.

ومما يلفت في حياة تولستوي رفضه أشكال العنف كلها. إذ دعا إلى مقاومته باللاعنف، وهذا ما تحدث عنه في كتابه “ملكوت الله في داخلكم”. إذ امتنع عن تقبل كل ما لا يصب في مصلحة بني البشر، فرفض أن يقتل الآخرون مهما كانت الأسباب باسم الدين، ورفض تلك الحروب التي خاضها الروس ضد الشعوب الأخرى بمختلف مسمياتهم، خصوصاً أنه شارك فيها، ثم سرعان ما تركها، مستفيداً من تجربته في الدفاع عن حقوق الإنسانية، فالأرض للجميع، والكل شركاء فيها بالمحبة والتعاون، ولا داعي إلى تلك الصراعات الدموية التي تفقد العالم إنسانيته وجماله.

وبهذا الصدد حاول إثبات دعوى المسيح إلى السلمية مرتكزاً إلى تعاليمه، واصفاً من يجادلون في هذا الأمر بـــ”الدنيويين”،إذ يقول “وآنذاك بشّر المسيح بتعليمه الذي لا ينحصر فقط في عدم مقاومة الشر بالعنف، وإنما هو تعليم يتعلق بفهم جديد للحياة، والذي جزء منه، أو بالحري تطبيقه في الحياة الاجتماعية، كان التعليم بوسيلة القضاء على الصراع بين البشر جميعاً.. وإنما من خلال عدم استخدام العنف من قبل أي كان، وبخاصة السلطات، ضد أي كان، في أي حال من الأحوال”.

والجدير ذكره، أن مبدأ المناداة باللاعنف أثمر في ما بعد، وقد نشأت ثورات كثيرة تعتمد على العصيان المدني، ولعلها تؤكد تأثير مبادئ تولستوي في الفكر العالمي.

لقد اعتمد تولستوي البساطة في التعبير عن آرائه الفلسفية والفكرية، وفي ثورته الاجتماعية والأخلاقية، واستطاع أن ينقلنا إلى عالمه السلمي العامر بالحب والعطاء، ونال شهرةً واسعةً ومكانةً ساميةً في الفكر والأدب، وقد رأى فيه لينين كاتباً عبقرياً، وأوصى بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية بنشر جميع مؤلفاته التي منعتها الرقابة في روسيا القيصرية، وفي ذلك انتصار للإنسان والأدب.
الميادين.نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى