كتب وثيقة استقلال فلسطين وعارض اتفاقية أوسلو، الوجه الآخر لمحمود درويش “الشاعر الرائع والزوج الفاشل”
من أبرز الشعراء الفلسطينيين والعرب، عُرف كأحد أدباء المقاومة والتحمت قصائده بالقضية الفلسطينية، حتى أُطلق عليه لقب “شاعر المقاومة”.
يُعتبر أغسطس/آب من كلّ عام شهر محمود درويش بامتياز؛ ففي التاسع منه، كانت الذكرى الـ14 لوفاته، حين غادَرَنا في ذلك اليوم تاركاً وراءه إرثاً فنياً كبيراً واسماً سيبقى محفوراً في الذاكرة الجماعية العربية.
من أبرز الشعراء الفلسطينيين والعرب، عُرف كأحد أدباء المقاومة والتحمت قصائده بالقضية الفلسطينية، حتى أُطلق عليه لقب “شاعر المقاومة”.
يُمكن القول إن محمود درويش رائد “الشعر الحداثي” (وليس الحديث)، ذلك الذي لا يخضع لشروط القافية وضغوطها، فتُكتب أبياته على شكل جُملٍ نثرية قصيرة تهزّ أركان مستمعيها، فتُحمّسهم أو تُحزنهم وتُبكيهم، بحسب الظرف الزمني لإلقائها وبحسب معاني كلماتها.
هو أيضاً سياسي ومناضل، له صولات وجولات في العمل السياسي ضدّ العدو الإسرائيلي، الأمر الذي أدّى إلى اعتقاله لأكثر من مرّة. له ما يزيد عن 30 ديواناً من الشعر والنثر، إضافةً إلى ثمانية كتب، وقد تُرجم شعره إلى لغاتٍ عدّة.
في العام 2008، توفي بالولايات المتحدة الأمريكية إثر خضوعه إلى عملية القلب المفتوح، ودفن بمدينة رام الله في الضفة الغربية الفلسطينية.
لم تكن حياته الشخصية أقلّ صخباً من السياسية، فقد تزوّج مرتين قبل أن يعتزل الزواج. ويُقال إنه ارتبط بعلاقة حب مع إسرائيلية، تلك التي يُقال إن قصيدة “ريتا والبندقية” و”شتاء ريتا الطويل” كُتبتا خصيصاً لها.
وفي العام 2020، كتب الشاعر والروائي السوري سليم بركات مقالاً كاشفاً فيه أن لدرويش ابنة غير شرعية، هي ثمرة علاقةٍ مع امرأة متزوجة، وادّعى بركات أن الشاعر الفلسطيني كان قد أفشى له هذا السرّ قبل نحو 30 عاماً حين كانا معاً في قبرص.
محمود درويش.. من مواليد القرية التي اختفت بعد النكبة
وُلد درويش يوم 13 مارس/آذار 1941 في قرية “البروة” بمدينة الجليل، عندما كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وهو الابن الثاني لعائلة فلسطينية، وله 3 شقيقات و 4 أشقاء.
كانت عائلته تملك أراضٍ فلاحية في قريتها، التي غادرتها لاحقاً باتجاه لبنان في عام النكبة، في سنة 1948، بعد قيام دولة الاحتلال.
بعد سنة واحدة فقط في البلد الجار، عادت العائلة بشكلٍ سرّي إلى فلسطين، حيث لاحظت أن قريتها قد اختفت لتُبنى مكانها قرية يهودية، ما دفعها للاستقرار في قرية أخرى، وهي “دير الأسد”، بمنطقة الجليل الأعلى.
تلقى الطفل محمود تعليمه الابتدائي هناك، ثم واصل دراسته الثانوية في بلدة “كفر ياسيف”، ليرحل بعدها للعيش في مدينة حيفا، إثر إنهائه لتعليمه الثانوي.
بدأ النضال السياسي من بوابة الحزب الشيوعي الإسرائيلي
بدأ محمود درويش نضاله السياسي ضدّ الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين في سن مبكرة، عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية، وذلك ضمن الحزب الشيوعي الإسرائيلي “راكاح”. والحزب الشيوعي الإسرائيلي يعتبر امتداداً للحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي تأسّس في الثلاثينيات من القرن الماضي.
كان “راكاح” يمثل صوت المعارضة في إسرائيل، ولهذا فلا غرابة بأن كان محمود درويش أحد أعضائه.
بعد إنهائه تعليمه الثانوي، انضمّ إلى طاقم تحرير جريدة “الاتحاد” التابعة للحزب، كاتباً للمقالات وللشعر أيضاً، ثم أصبح رئيساً لتحرير مجلة “الجديد” الصادرة عن الحزب الشيوعي نفسه.
لم يمرّ نشاطه السياسي من دون أن يدفع سلطات الاحتلال إلى مراقبته ومضايقته، فقد تمّ اعتقاله مراتٍ عدّة بين عامَي 1961 و1967.
في مدينة حيفا سُجن للمرة الأولى عام 1961، وقد وصف تلك التجربة بـ”الحب الأول” في حياته، حين قال عنها: “إنّ السجن الأول مثل الحب لا يُنسى”، وفقاً لما جاء في ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة”.
المرة الثانية التي سُجن فيها درويش كانت في العام 1965، بعد سفره إلى القدس عن طريق حيفا من دون تصريح، حين كان العرب مُطالبين باستحصال تصريحٍ خاص في حال أرادوا التنقل من مدينةٍ إلى أخرى. ويُقال إنه كتب قصيدة “أحنّ إلى خبز أمي” داخل السجن بعدما زارته والدته.
أما المرة الثالثة، فقد سُجن في سنة 1967، عندما عقد الطلاب العرب بالجامعة العبرية أمسية شعرية في القدس وألقى قصيدته الشهيرة “نشيد الرجال” التي نشرها بعد ذلك في ديوانه الثالث “عاشق من فلسطين”.
في العام 1970، فرضت عليه السلطات الصهيونية الإقامة الجبرية بمدينة حيفا، إثر نشره مقالات سياسية اعتبرتها “ذات نوايا سيئة”؛ فطلب بعد ذلك “تأشيرة طالب” من سفارة الاتحاد السوفياتي، لمغادرة البلاد.
وبالفعل، ذهب إلى موسكو لدراسة الاقتصاد السياسي، ثم اختفى عن الأنظار في سنة 1971، قبل أن يظهر من جديد في القاهرة عام 1972، حيث عمل في جريدة “الأهرام”.
ومن مصر، أرسل استقالته إلى مسؤولي الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لينضمّ بعد ذلك إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ثم فضّل الرحيل إلى بيروت في العام 1973.
هناك، أشرف على إدارة مجلة” شؤون فلسطينية”، كما عمل كرئيس تحرير لمركز البحث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي كان يركّز على تغطية الصراع العربي الصهيوني من خلال نشر الكتب وعقد الندوات والمؤتمرات وأرشفة الوثائق والمخطوطات.
في العام 1981 أسّس مجلة “الكرمل” الأدبية، وبقي رئيساً لتحريرها إلى غاية توقفها نهائياً عن الإصدار سنة 2006. بعد عامٍ من تأسيسها، اضطرّ درويش إلى توقيف إصدار المجلة بشكلٍ مؤقت، بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. وقد خلّد المقاومة الفلسطينية لذلك الحصار من خلال قصيدته الشهيرة “بيروت”، التي نشرها في العام نفسه.
وبعد نهاية الحصار، غادر نحو مدينة نيقوسيا القبرصية، حيث أعاد إصدار مجلة “الكرمل” سنة 1983 إلى غاية 1993، للتوقف من جديد وتُعاود الصدور من مقرّها الجديد في مدينة رام الله الفلسطينية عام 1996 ولغاية إقفالها النهائي في 2006.
خلال كل تلك الفترة، بقي محمود درويش منفياً عن بلده، ومتنقلاً بين عواصم عربية وأوروبية مختلفة، كالقاهرة وتونس وباريس. وقبل انتقاله إلى رام الله، كان قد عُيّن في العام 1987 عضواً باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
محمود درويش.. كاتب وثيقة إعلان استقلال فلسطين
في العام 1988 عُيّن مستشاراً لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات، فكتب وثيقة إعلان استقلال فلسطين (إقامة دولة فلسطين المستقلة)، والذي قرأه ياسر عرفات يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ19 المنعقدة في الجزائر العاصمة.
استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بسبب اتفاقية أوسلو، التي وقعتها المنظمة مع إسرائيل في 13 سبتمبر/أيلول 1993 بالعاصمة النرويجية -حول الحكم الذاتي الفلسطيني- والتي عارضها بشدّة.
لكن وعلى الرغم من تلك المعارضة، فقد عاد درويش إلى فلسطين في العام 1994، وأقام في مدينة رام الله، العاصمة المؤقتة للسلطة الفلسطينية. وظلّ مناضلاً ومنادياً للوحدة بين أبناء شعبه إلى غاية مفارقته الحياة في صيف 2008.
وقد نشر آخر قصائده بعنوان “أنت منذ الآن غيرك” يوم 17 يونيو/حزيران 2007، منتقداً فيها التقاتل الفلسطيني الداخلي.
تزوج مرتين وأحبَّ يهودية؟
لم تكن حياة محمود درويش الخاصة أقلّ صخباً من تلك السياسية؛ فقد تزوج مرتين، وقرر بعد طلاقه الثاني عدم خوض تجربة ثالثة، مُفضلاً الوحدة وعدم تحمّل مسؤولية تكوين عائلة.
تزوج درويش للمرة الأولى سنة 1977 من رنا قباني (ابنة أخ الشاعر السوري نزار قباني)، بعدما التقاها في العاصمة الأمريكية واشنطن، انفصلا بعدها بـ9 أشهر قبل أن يعطيا نفسيهما فرصةً ثانية استمرّت لسنتين، ثم آلت بعد ذلك إلى الانفصال.
“كانت علاقتي بمحمود بركانية وعاصفة”، تقول رنا في أحد حواراتها المتلفزة، إلا أنها تقرّ بأن للعلاقة وجوهها الإيجابية أبرزها إسهام محمود في تعميق وعيها السياسي والنضالي.
وفي مقالٍ له نُشر في جريدة “الشرق الأوسط”، ينقل الشاعر اللبناني شوقي بزيع قول زنا قباني عن محمود درويش: “الكاتب إنسان مريض ومضطرب، وهو ما أنا عليه أيضاً. وقد اخترت من اخترت لأنه يشبهني، إذ يصعب زواجي من صيرفي على سبيل المثال”.
ويتابع بزيع: “تؤكد قباني أن محمود قد خصّها بغير نص شعري من نصوص تلك الفترة، ومن بينها قصيدة الرمل، وتنوّه في الوقت بأناقة زوجها الباذخة وسخائه الاستثنائي، وبأنها اعتادت بشكل يومي على تلقي وروده وهداياه. إلا أن كل ذلك لم يمنعها من الاعتراف بأن درويش لم يخلص في قرارته إلا لقصيدته، وبأنه لم يُخلق ليكون أباً وزوجاً ورب أسرة. إنه شاعر رائع ولكنه زوج فاشل”.
لاحقاً في منتصف ثمانينيات القرن الماضي تزوج محمود درويش من المترجمة المصرية حياة الحيني، لكنهما تطلقا بعد شهور قليلة فقط، ودون أي مشاكل. ولم يرتبط درويش رسمياً بعد ذلك بأي امرأة أخرى، حيث تفرّغ للشعر ولعمله السياسي الثوري ضد الاحتلال الصهيوني لوطنه فلسطين.
وفي العام 2019 ادّعت المخرجة الفلسطينية ابتسام المراعنة، في فيلمها التسجيلي “سجّل أنا عربي”، أن ريتا -التي كتب لها أشعاراً- هي شخصية حقيقية واسمها الحقيقي تامار باهي، وُلدت في حيفا عام 1943، وعملت أستاذة للأدب بجامعة تل أبيب.
المراعنة التقت مع “ريتا” في برلين، وروت قصة تعرُّفها على درويش، مدّعيةً أن اللقاء الأول بينهما تمّ حين كان الشاعر في السادسة عشرة من عمره، وذلك خلال حفلٍ جمعهما مصادفة.
انتهت قصة الحب بين ريتا ومحمود بحلول يونيو/حزيران 1967، عندما أنهت “نكسة حزيران” الحكاية وأيقظت لديهما هويتيهما لينحاز كل منهما إليها. ووفقاً للمخرجة الفلسطينية، فقد اختارت ريتا الانضمام إلى سلاح الطيران الإسرائيلي، فيما اختار درويش الوقوف إلى حكاية شعبه، وكتب ليرثي حبه في قصيدته الشهيرة التي غناها الفنان اللبناني مارسيل خليفة “ريما والبندقية”.
وفي العام 2020، كتب الشاعر والروائي السوري سليم بركات مقالاً في جريدة “القدس العربي” كشف فيه أن لدرويش ابنة غير شرعية، هي ثمرة علاقةٍ مع امرأة متزوجة، ومدّعياً أن الشاعر الفلسطيني كان قد أفشى له هذا السرّ قبل نحو 30 عاماً حين كانا معاً في قبرص.
أكثر من 30 ديوان في الشعر والنثر
ترك محمود درويش ما يزيد عن ثلاثين ديواناً من الشعر والنثر بالإضافة إلى ثمانية كتب، وقد ترجم شعره إلى عدة لغات. ومن أبرز دواوينه “عصافير بلا أجنحة”، “أوراق الزيتون”،” أصدقائي لا تموتوا”، “عاشق من فلسطين”، “العصافير تموت في الجليل”، “مديح الظل العالي، “حالة حصار”.
ومن أشهر قصائده “عابرون في كلام عابر”، التي يقول فيها: “أيها المارون بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم وانصرفوا.. وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا.. وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.. وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا”.
توفي شاعر المقاومة يوم 9 آب/ أغسطس 2008 بأحد مستشفيات مدينة “هيوستن” الأمريكية نتيجة مضاعفات خضوعه لعملية جراحية أجراها على مستوى القلب.
وقبل دخوله غرفة العمليات، كتب محمود درويش آخر كلماته، وكأنه كان يشعر بقرب أجله، بحيث ترك ورقة صغيرة، قال فيها:” أنا أعرف أن صراعي مع الموت هذه المرة، وأن الموت سينتصر.. إذا فشلت هذه العملية فارفعوا عنِّي الأجهزة”، بحسب ما جاء في موقع “ساسة بوست”.
وبعد وصول جثمانه إلى مطار عمان الدولي في الأردن، تم نقله إلى رام الله حيث حُظي بجنازةٍ رسمية حضرها كبار الشخصيات الفلسطينية، تقدّمهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وقد دُفن في قطعة أرض قرب قصر الثقافة في رام الله.
– المصدر : عربي بوست