المتنبي: أكثر من ألف عام.. والقراءة مستمرة
ملأ الدنيا وشغل الناس، وما زال شعره مقروءاً إلى اليوم.. من هو أبو الطيب المتنبي؟
“ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس”، هذا ما قاله ابن رشيق عن الشاعر العربي الأشهر عبر العصور، وهو لا يزال أحسن تعبير عن شهرة المتنبي وسيرورة شعره حتى يومنا هذا.
المتنبي أشبه بالجبل الأشمّ، أينما قلّبت النظر إليه فسترى كل عجيبة وغريبة، وهو البحر الزاخر، تقف عند ساحله فيبهرك ما ترى من عَظَمة، ويفتنك ما تشاهد من صور. تعيد النظر مرة تلو مرة، فلا تجد إلّا الحُسن والإبداع.
أصل المتنبي ونَسَبه
إذا أردنا الحديث عن أمر نَسَب المتنبي، وهو الأمر الذي شغل كثيراً من الأدباء والمؤرخين، فقد نجد القول الفصل عند شيخ المحققين، أبي فهر محمود شاكر، الذي يقول في كتابه “المتنبي”:
“إنَّ وضع القضية عندنا أنَّ رجلاً من العلويين، وربما من كبارهم، تزوَّج بنت جدة المتنبي، فحملت منه، وهذا الحسين غير “عيدان السقاء”، وربما كان عيدان هو جَدَّ المتنبي لأمّه، ولأمرٍ ما حمل العلويون هذا الرجل العلوي على طلاق امرأته، فطلّقها وفارقها، فرجعت إلى أمها بطفلها أبي الطيب، وحزنت حزناً أهلكها. وذهب بها الموت، وبقي الطفل، فكفلته جدته وتعهدته وقامت بأمره حتى بلغ مبلغ الفتيان، ودلّته على الطريق بعد أن صرّحت له بحقيقة أمره، وصحيح نسبته إلى العلويين، وكان من حزمها أن حذرت الفتى من عواقب التصريح بأمر نَسَبه، وأنّه إن فعل كان فيه هلاكه وهلاكها، لأنّها علمت – بلا شك – أنَّ سبب فراق أبيه لأمه هو هذا النسب”.
وعند محمود شاكر أيضاً أنَّ أبا الطيب لمّا عاد من الكوفة سنة 326 للهجرة، واتصل ببدر بن عمّار ولزمه وأصاب عنده كرامةً، تناوشه الشعراء إذ خافوا على أرزاقهم، وطفقوا ينتقصون الرجل، ويطلبون له العيوب، وأغراهم في ذلك ما وجدوا من ترفّعه عن مجالس لهوهم، وانصرافه عن الهزل الذي يكونون فيه. فلمّا وقعوا على كثرة ذكر أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسه بهم، لقّبوه بـ”المتنبي”، وذلك أرادوه لقباً ينبزونه به، ولما استفاضت شهرته صار لا يُذكَر إلا به.
علوي لا نبي
إذاً، فالنَّسَب علوي، ودعوى النبوءة ليست صحيحة، وإنما هي ادّعاء الحاسدين والمبغضين. ولم يُسجَن أبو الطيب بسبب ادّعاء النبوة، بل بسبب التصريح بنَسَبه إلى العلويين، الذين يُنكرون ذلك عليه، فأبوه هو الحسين العلوي، وليس هو الحسين الملقَّب بـ”عيدان السقاء”، الذي يسقي الناس على جملٍ له في محلة كندة في الكوفة. كما أنَّ المتنبي لم يأتِ في كلِّ شعره على ذكر أبيه أو أمه ولا نَسَبه، خوفاً من العلويين، ولم يذكر شيئاً من ذلك إلّا عن جدته في مرثيته الشعرية لها. وهذا الصمت هو الذي أغرى أعداءه به ليتقوّلوا عليه كما يشاءون.
المتنبي في ضيافة بدر بن عمار
في أواخر سنة 328 للهجرة، توجّه المتنبي نحو فلسطين، قاصداً بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي، قائد جيشها وحامي حماها، وصاحب الخصال الحميدة والعربية الأصيلة، من شهامة وكرامة وطيب معشر وعزة نفس. ليس هذا فقط، بل إنّه يحمل في صدره بغضاً كبيراً للأعاجم، بسبب ما أنزلوه بالدولة من تفريق وتمزيق، وهو في ذلك قريب المشاعر والمواقف من المتنبي.
وفي جوار بدر بن عمار الأسدي، بدأت عصبيّة أبي الطيب للعرب وللعربية تُسفر عن وجهٍ، وتجلو عن نفس الشاعر ظلماتٍ ضربت عليها حجابها، وهيّأت شاعريته لما يستقبله لسيف الدولة العدوي العربي هازم الروم، وقامع الدسائس الفاطمية في الشام وبعض العراق.
وإنّما الناس بالملوك، وما
تفلح عربٌ ملوكها عجمُ
بقي المتنبي في جوار بدر وفي مجالسه من أواخر سنة 328 إلى أوائل سنة 333 للهجرة على وجه التقريب. والجدير بالذكر أنَّ مدائحه لبدر تكاد تكون في الطبقة الثانية من جيّد شعره، وفيها أبياتٌ في الطبقة الأولى من الشعر العربيّ كلّه. وقد أبدع كذلك في وصف بحيرة طبرية:
بحيرةٌ كلُّ شأنهـا عَجَـبٌ
وهي مـن الحسن كلها غُرَرُ
لله درُّ الكِنـْديِّ واصفِهـا
كأنهـا فـي سمائهـا قمرُ
كانت تحفّ الجنـان دورتها
والآن تحتفُّ دورها السِّـدَر
مراة نُـور من السفوح له
إطارُ نَـْورٍ لم تحكـِهُ الأطر
كأنّهـا في صفائهـا فلكٌ
وفلكهـا فيه أنجـم زُهُـُر
أجمـد بقوم رأوا محاسنَها
يوماً فما أنشدوا ولا شعروا.
أما قصيدته التي تصف الأسد، ومقابلته ابنَ عمّار، فإنها توضع بين مفردات الشعر العالي، بسبب ما اجتمع فيها من الحكمة والبيان الساطع والخيال الجامع وحسن التصوير، وكأنه مشهد سينمائي يمرّ أمام عينيك.
“قالوا: خرج بدر بن عمار إلى أسدٍ فهرب الأخير منه، وكان قد خرج إلى أسدٍ آخر كان يقطع الطريق على المارة، ويُلحق بهم أذىً كبيراً، فهاجه عن بقرة افترسها بعد أن أتخم وثقلت حركته، فوثب إلى كفل فرسه فأعجله عن استلال سيفه، فبادره بالسوط يضربه حتى مرّغه بالتراب.
أَمُعَفِّرَ اللَيثِ الهِزَبرِ بِسَوطِهِ
لِمَنِ اِدَّخَرتَ الصارِمَ المَصقولا
وَقَعَت عَلى الأُردُنِّ مِنهُ بَلِيَّةٌ
نُضِدَت بِها هامُ الرِفاقِ تُلولا
وَردٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِباً
وَرَدَ الفُراتَ زَئيرُهُ وَالنيلا
مُتَخَضِّبٌ بِدَمِ الفَوارِسِ لابِسٌ
في غيلِهِ مِن لِبدَتَيهِ غيلا”.
كان المتنبي واثقاً حين قال بيته التالي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
فقد ظلَّ الكاتبون في المتنبي يقرأون عنه، ليجدوا معنى جديداً يزيدك حسناً إذا ما زدته نظراً. إننا ما زلنا نطرب ونهتز إلى اليوم على أشعار المتنبي، كما كان يفعل سيف الدولة الحمداني قبل قرون في حلب.
المراجع والمصادر
– “المتنبي”، محمود محمد شاكر (شيخ المحققين).
– “المتنبي.. الشاعر الثائر”، خالد الشايجي.
المصدر: الميادين