لبنان أمام “طبقية التعليم”.. أهالي الطلاب يصرخون: سنبيع أنفسنا لتعليم أبنائنا!


على صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي يعرض رجل ستّيني لبناني بعضاً من أثاث منزله للبيع. يقول في منشوره، إنه مجبر على ذلك كي يتمكن من تعليم أبنائه الأربعة في مدرستهم التي بات قسطها وتكاليف التعليم الإضافية فيها عن كل ولد تفوق بعشر مرات راتبه الذي يتقاضاه بالليرة اللبنانية، يشاركه أب آخر معاناته فيقول إنه باع هو الآخر سوار زوجته كي يتمكن من تسجيل ابنتيه هذا العام في مدرستهما التي طلبت جزءاً من القسط بـ”الفريش” دولار.

لم يعد “القرش الأبيض” لدى اللبنانيين للأيام السود، بل بات لكل الأيام التي تشابهت في ظلمتها، فمن أقسى ما قد يواجه المواطن في هذه البلاد أن يغدو عاجزاً عن توفير العلم والمعرفة لأبنائه، عله يمهّد لهم الطريق نحو مستقبل أفضل من الحاضر الذي جار على طفولتهم كثيراً حتى بات أكبر أحلامهم أن يلتحقوا بمدارسهم من دون أن يبيع أهاليهم أثاث المنزل.

هذا واقع مرّ تعيشه الأسَر اللبنانية اليوم التي بات 75 في المئة منها يرزح تحت خط الفقر، بحسب تقرير جديد لمنظمة اليونسيف عنوانه “الطفولة المحرومة”.

نتحدث إذاً عن شريحة واسعة تواجه اليوم تحدياً صعباً مرتبطاً بمصير أبنائها، فالمدارس الخاصة اتجهت أخيراً إلى اجتراح الحلول كرفع الأقساط أو “دولرتها” كي توفر نفقاتها أسوة بباقي القطاعات. أما المدارس الرسمية فلا وضوح في الرؤية بشأنها حتى الساعة، في ظل المشهد المتأزم وعجز الدولة مجدداً عن تأمين استمرارية العملية التربوية مع تفاقم الانهيار الاقتصادي.

الأهالي يشتكون: تكاليف التعاليم باهظة!
بالعودة قليلاً إلى ما قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان أي إلى الأعوام الأخيرة الماضية قبل عام 2019، كان حجم الإقبال على التعليم الخاص بشقّيه المجاني وغير المجاني قد وصل إلى 70 في المئة، وهي نسبة تعادل أكثر من ثلثي التلاميذ، فيما تراجع الإقبال على التعليم الرسمي، وذلك بحسب الأرقام الرسمية التي ترد سنوياً في النشرة الإحصائية الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء.

لعل هذا الإقبال على المدارس الخاصة كان مدفوعاً بقناعة الأهالي الضمنية بعدم إلحاق أولادهم بالتعليم الرسمي، إلا في حال عدم قدرتهم على تحمّل أعباء الأقساط في المدارس الخاصة.

حينذاك، لم تكن العملة الوطنية قد فقدت 90 في المئة من قيمتها بعد، وكانت الرواتب والمنح وغيرها من الحوافز تساعد الأهل نوعاً ما في تحمل تكاليف التعليم الخاص المقدور عليها في ذلك الوقت.

مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وحدة تبعاتها، خصوصاً على ذوي الدخل المحدود، لا يخفي الأهالي قلقهم على مصير أبنائهم الذي غدا شغلهم الشاغل مع توجه المدارس الخاصة إلى رفع أقساطها أو دولرتها كي تؤمن هي الأخرى نفقات وأجور أساتذتها.

هبة أم لولدين في المرحلة المتوسطة، تقول للميادين نت إن إدارة المدرسة أبلغتهما أن عليهم هذه السنة دفع 300 دولار “فريش” إلى جانب مبلغ آخر بالعملة الوطنية، مشيرة إلى أن الأقساط لم تكن تتعدّى خمسة ملايين في العام المنصرم، والقسط الذي تطلبه المدرسة هذه السنة كبير جداً، وزوجها موظف في إحدى الدوائر الرسمية، ولا قدرة لهم على تحمّل كل هذه التكاليف، لافتة إلى أنها ستضطر في نهاية المطاف إلى تسجيلهم في مدرسة رسمية.

الخوف عينه يرويه طلال، وهو أب لثلاثة أطفال في المرحلة الابتدائية، قائلاً للميادين نت إنه كان ينوي فعلاً نقل أولاده إلى مدرسة رسمية بعد أن ارتفعت الأقساط بحدة في مدرستهم الخاصة، لكنه عاد وتراجع عن الخطوة، موضحاً أنه “وجدت أن وضع المدارس الرسمية غير مستقر”، ويضيف متأسفاً: “اضطررت إلى الاقتراض من أجل تسجيل أولادي في المدرسة الخاصة ولو أن المدارس الرسمية تحظى باهتمام من الدولة لما لجأت إلى المدارس الخاصة في هذه الأوضاع الصعبة”.

يشكو طلال أن أقساط أطفاله الثلاثة تكلفتها 27 مليون ليرة لبنانية، أي عشرة أضعاف أقساط السنة الدراسية الماضية التي كانت عبارة عن 3 ملايين فقط، ويستطرد قائلاً: “سنبيع أنفسنا لتعليم أبنائنا”.

آمال أم لطفل في مرحلة الروضة، شكواها مماثلة لشكوى طلال، إذ تلفت إلى أن القسط ارتفع كثيراً عن السنة الماضية ليصبح 9 ملايين ليرة لبنانية للعام الدراسي المقبل، و”هذا المبلغ يفوق قدرتنا المادية”، تقول أمال، وتستطرد: “الطامة الكبرى هي في التكاليف الإضافية أيضاً. كل شيء بات يسعر بالدولار، القرطاسية، الزي المدرسي، الكتب، والمواصلات”. مشيرة إلى أنها اختارت مدرسة قريبة من سكنها كي توفر تكاليف المواصلات.

كآمال تروي رقية بحرقة، وهي أم لثلاثة أطفال في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، معاناتها بعد أن رفعت مدرستهم الخاصة أقساطها. تقول إنها ستضطر إلى مرافقتهم سيراً على الأقدام إلى المدرسة لعدم قدرتها وزوجها الذي يعمل في المؤسسة العسكرية على تحمل مزيد من الأعباء، وتتابع: “طلبت إلينا المدرسة أن ندفع قسماً من الأقساط بالدولار فيما لا يزال زوجي يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية”.

يجمع الأهالي على أن مخاوفهم هذه ليست وليدة ارتفاع الأقساط فحسب، بل لأن رواتبهم وأجورهم لم تصحح بعد من قبل الدولة، بخاصة أجور الذين يعملون في القطاع العام، إذ يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية. فمن يضمن لهم عدم ارتفاع سعر صرف الدولار عما عليه اليوم؟ وبالتالي من يضمن ألا تطلب المدارس مدفوعات إضافية بالدولار غير محسوبة؟

التعليم الخاص “للميسورين فقط”
“الزيادات حتمية”، تؤكد رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل في حديثها إلى الميادين نت، رافضة في الوقت عينه أن تكون عشوائية ومن دون موافقة لجان الأهل، مشيرة إلى أن أي زيادة يجب أن تكون ضمن الموازنة ومدققة ومراقبة من لجان الأهل وخبراء محلفين.

وتعبر الطويل عن خشية الأهالي من عدم قدرتهم على دفع الأقساط المهولة التي تفرض عليهم، كاشفة في الوقت عينه عن تعرض لجان الأهل لجميع أنواع المضايقات من قبل المدارس لإسكاتهم والحؤول دون ممارسة دورهم الرقابي على حد تعبيرها.

أما عن دولرة الأقساط “غير القانونية”، فتقول الطويل: “ما دامت الموازنة المدرسية بالعملة الوطنية فدولرة الأقساط تحتاج إلى تعديل القوانين، ولا سيما القانون 515 الذي ينص على استيفاء المدارس أقساطها من الأهالي بالعملة الوطنية حصراً، ويستحيل أن يحصل ذلك في ظل الظروف التي يمر بها البلد”. والكلام لرئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة.

بيد أن هذه الظروف القاسية التي أشارت إليها الطويل، هي عينها التي دفعت بعض المدارس الخاصة إلى زيادة الأقساط أو دولرتها على حد تأكيد إداراتها وأصحابها في ظل غياب خطط حكومية تضع في سلم أولوياتها دعم القطاع التعليمي وحمايته على حد تأكيد مديريها. فـالدولرة والزيادات حل أخير تقدم عليه إدارات المدارس لدرء ما هو أعظم وتجنيبها انتكاسة كبيرة تؤثر في جودة التعليم فيها.

إن ما يدفع اليوم المدارس الخاصة نحو خيار دولرة الأقساط بحسب الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان، الأب يوسف نصر، هو بالدرجة الأولى حاجة المعلم وتوفير حقوقه كي يتمكن من العيش بكرامة من مهنته، فضلاً عن النفقات التشغيلية للمؤسسة التي أصبحت بالدولار من مازوت إلى قرطاسية، مروراً بالأوراق والحبر وصولاً إلى العلاج وغيرها من النفقات.

وإذ يؤكد نصر وجوب إيجاد حل لموضوع الدولرة عبر تعديل القانون 515، لا يؤيد منسق مديرية التربية والتعليم في جمعية المبرات الخيرية فايز جلول هذا الطرح، مشيراً إلى أن رفع الأقساط بنسبة عالية ليس حلاً، ويقول: “نحن بذلك نخسر عدالة التعليم ونتجه إلى أن يصبح التعليم للميسورين اجتماعياً فقط”.

جلول في الوقت عينه شدّد على أن الأقساط اليوم كقيمة لم تعد تكفي لتغطية كل نفقات المؤسسات التربوية، مناشداً الدولة ووزارة التربية حماية القطاع التربوي: “القطاع التربوي على المحك ونحاول أن نحمي مؤسساتنا باللحم الحي، لكن قدرتنا على الصمود محدودة”، وفق جلول.

على غرار عدد من المدارس ارتأت إدارة الثانوية الوطنية الأرثوذكسية في طرابلس (شمال) رفع أقساطها بالعملة اللبنانية لتغطية النفقات التشغيلية، فضلاً عن اعتماد صندوق الدعم بالدولار الذي تشترك فيه الإدارة والأهالي لمساعدة الأساتذة على الاستمرار في رسالتهن التربوية.

يتحدث المدير العام للثانوية ميشال قطرة عن انقسام حاصل بين الأهالي، فبعضهم أبدى امتعاضه من الزيادات الحاصلة، وهم الذين يعملون في القطاع العام من موظفين وأفراد قطاعات عسكرية. أما الأهالي الذين يعملون في القطاع الخاص أو لديهن مهن حرة فقد أبدوا تفهماً للوضع المستجد.

يشاطر المدير العام لثانوية روضة الفيحاء في طرابلس مصطفى المرعبي قطرة رأيه، إذ يرى في حديثه إلى الميادين نت أن “الحصول على الإجماع في مسألة زيادة الأقساط، سواء أكانت بالليرة اللبنانيّة أم بالدولار الأميركي غير ممكن، وهذا ينطبق على جميع المؤسسات الجامعيّة والمدرسيّة”.

ويتابع المرعبي حديثه مشدداً على أن اعتماد سياسة التقشّف لم تلغِ واقع الأعباء الهائلة، فيقول: “الأرقام المضافة إلى الموازنة أصبحت خياليّة، إذا احتسبناها بالليرة اللبنانيّة”، ويرى أن تكلفة التعليم هي الأقلّ تأثّراً بدولرة النفقات اليوميّة.

إذاً، رفع الأقساط بالعملة الوطنية أو دولترها شر لا بد منه! هذا ما يعكسه واقع المدارس الخاصة في لبنان.

المدارس الرسمية على المحك وأرقام التسرّب المدرسي صادمة
في سياق مشهدية الضيقة الاقتصادية التي تنذر بعام دراسي كارثي على كل الصعد، يرجح معنيون بالشأن التعليمي في لبنان انتقال أكثر من 150 ألف طالب خلال هذا العام الدراسي من الخاص إلى الرسمي.

لكن حصول ذلك مرتبط أولاً بوضع المدارس الرسمية. فالمدارس الرسمية غير مؤهلة لوجستياً لاستقبال أعداد كبيرة من التلامذة، فضلاً عن الأزمة التي لحقت بالقطاع العام ورواتبهم التي شملت المعلمين المستمرّين في إضرابهم حتى الساعة. هذا ما يؤكده رئيس لجنة الشباب والرياضة النائب سيمون أبي رميا، ويتابع قائلاً: “لو اعتمدت البطاقة التربوية ولو وضعت خطة للنهوض بالتعليم الرسمي لما وصلنا إلى ما نحن عليه”.

في سياق متصل يسلط أبي رميا الضوء على الأرقام المخيفة للتسرب المدرسي التي رصدتها منظمة اليونسكو أخيراً، إذ وصلت إلى 55% محذراً من ارتفاعها في مطلع العام الدراسي بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية وازدياد نزوح الطلاب من المدارس الخاصة إلى الرسمية.

كذلك فإن 13% من الأولاد ما من دون 18 سنة دخلوا سوق العمل لمساعدة أهلهم مادياً، ما قد يزيد بدوره نسبة التسرب المدرسي، كما يقول أبي رميا.

انعدام العدالة الاجتماعية
هذه الآفة هي أحد انعكاسات الفجوة الكبيرة الحاصلة بين الأسر اللبنانية القادرة على تعليم أبنائها جيداً، وتلك الفقيرة التي تعجز عن توفير التعليم لأبنائها، على ما تؤكد الباحثة في الأنتربولوجيا والإعلام ليلى شمس الدين.

شمس الدين تشير إلى نتائج كارثية بهذا الصدد، إذ سيفتقر المجتمع اللبناني إلى المساواة في الأمن الاجتماعي، وسنكون أمام انحراف حقيقي في العدالة الاجتماعية.

وتؤكد شمس الدين أن عمالة التلامذة في ظل انخفاض الدخل يمكن أن تضر بالنتائج التعليمية لأنها تؤثّر في الصحة النفسية، وفي قدرتهم على إنجاز الواجبات وتعلم المهارات من خلال العملية التعليمة.

وتخلص شمس الدين إلى القول إن “جودة التعليم تتأثر سلباً جراء الأزمات الاقتصادية وفق ما ذكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم اليونسكو في دراسة أجرتها حول مدى تأثير الأزمات على التعليم وجودته في البلدان النامية منذ عشر سنوات”.

في موازاة ذلك، تؤكدأن التغيير ممكن، “ولكننا بحاجة إلى دعم كبير جداً من منظمات دول مانحة إلى جانب اهتمام الدولة بالمعلم والتلميذ والمستوى التعليمي، على حدّ سواء خلال الأزمات الاقتصادية التي لا بد أن تترك آثارها على العملية التعليمية التربوية”.

ولأن التعليم رسالة إنسانية أخلاقية معرفية، هل تنتظر الدولة اللبنانية طويلاً قبل تقديم الحلول، من خطط حكومية فاعلة وجادّة إلى اهتمام حقيقيّ بالتعليم الرسمي كي تنقذ قطاعاً يتهاوى أمام سيل من الأخطار التي تهدّده من كل جانب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى