لبنان بين خيارين.. السيئ والأقل سوءاً
يقف لبنان أمام خيارين؛ إما رفع الرسم الجمركي بشكل مدروس، وبطريقة اقتصادية – إنسانية، وإما إبقاء الأمور على حالها، ما يجعلنا أمام انهيار كبير وفوضى عارمة.
لا يهدأ للبنانيين بال. هذه هي حالهم، على الأقل منذ انفجار الأزمة في تشرين الأول/أكتوبر 2019. آخر انشغالاتهم هو “الدولار الجمركي” والسعر الجديد المرتقب له، والذي سيقفز قفزة واحدة من 1500 إلى 20 ألف ليرة لبنانية.
في علم الحساب البسيط، وبمقارنة مع سعر صرف الدولار الأميركي قبل انفجار الأزمة، فإن الدولار الجمركي كان يوازي آنذاك 1500 ليرة لبنانية. أما اليوم، فقد بات يشكل أقل من 5% من سعر صرف السوق للدولار الأميركي الواحد (33000 ل.ل).
يعني ذلك في ظلِّ اقتصاد مدولر (التعاملات التجارية قائمة على الدولار)، وفي سوق تعتمد على الاستيراد، ارتفاعاً في أسعار السلع المستوردة تبعاً لارتفاع سعر صرف الدولار. يُدفع هذا الارتفاع من جيوب المستهلكين طبعاً، في حين تبقى جباية الدولة لمستحقاتها وفق السعر الرسمي المعطّل للدولار الأميركي (1500 ليرة لبنانية). حتى الرسوم والضرائب جميعها تُجبى كما حال الرسوم الجمركية عند الموانئ البرية والجوية وعبر الحدود.
إنّها حال واردات لبنان، فيما المطلوب من الدولة أن تنفق وفق سعر صرف السوق. يشتد العجز يوماً بعد يوم، كما يتم الضغط على المالية العامة لتصحيح الأجور في القطاع العام، لانتشال الموظفين من الفقر، وتُطالَب الدولة أيضاً بعدم رفع الدعم عن السلع والمواد الاستهلاكية الأساسية، لعلّها توقف موجة الجوع القادمة.
كل هذا ومنابر لبنان الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعية مشرّعة لمحللين وسياسيين أكثرهم من المزايدين الذين أصبحوا بسحر ساحر “اختصاصيين” اقتصاديين وماليين، والذين يكثرون من ثرثراتهم ذات الطابع السياسي، ويحرضون على رفع الرسم الجمركي، وكأننا في سباق سياسي زعماتي أو في موسم يقترب من أبواب انتخابات… وهم يُحجّمون الكارثة المقبلة أو لا يدركون حجمها. قليلون يتكلمون بواقعية، ويقدمون أفكاراً بنّاءة تغني ويُبنى عليها، بعكس هواة الكلام لأجل الكلام والظهور واحتلال الشاشات والهواء.
لرفع الدولار الجمركي تداعيات سلبية، لكنّها تبقى أقل بملايين الأميال إن أبقت الدولة سعره على ما هو عليه اليوم، أي كما كان قبل الأزمة الكارثية. المطلوب اليوم قبل الغد من “أوادم” البلد الصغير مصارحة الناس بسلبيّتي رفع السعر من ناحيتي الخطر والأقل خطورة، وبتداعيات عدم رفعها.
صحيح أنَّ المواد الغذائية الأساسية معفاة من الرسوم، وكذلك السلع المرتبطة بالصناعة الوطنية، بما لا يترك أثراً في السلة الغذائية، ويحمي الإنتاج الوطني، ويسهم في تقديم بعض الحوافز المالية للقطاع العام، غير أنَّها تبقى عاجزة عن اللحاق بالمستوى الذي بلغته وستبلغه الأسعار المرتبطة بالمحروقات التي بدأ رفع الدعم عنها، والفيول لزوم تأمين الكهرباء، وتحليق كلفة المواصلات والتدفئة وسواها، ناهيك بالأثر الذي سيتركه تفلت سعر الدولار الأميركي وفق السوق الموازية، الّذي سيشهد إقبالاً كبيراً بعد رفع الدعم عن الدواء والمحروقات وبعض السلع المرتبطة بالمواد الصناعية – الغذائية الأساسية، كالتعليب والتوليف.
هذه العوامل كلّها تترك تداعيات سلبية في حال رُفع سعر الرسم الجمركي. أما العكس، وفي حال الإبقاء عليه كما هو، فأقل تلك التداعيات هو العجز عن تأمين رواتب القطاع العام، بما فيه الجهازان العسكري والأمني، إضافةً إلى رواتب الجهاز الإداري الذي يشكل عصب الإدارة وأداة تحصيل الإيرادات، وتأمين الخدمات الأساسية الصحية والتربوية والاجتماعية، ما يضيف إلى تعقيدات استمرارية الحياة تعقيداً، ويؤدي حتماً إلى الانهيار الكبير الذي عادةً ما تليه الفوضى وتقويض الاستقرار.
يقف لبنان أمام خيارين؛ إما الإقدام على رفع الرسم الجمركي بشكل مدروس، وبطريقة اقتصادية – إنسانية تحقق الجدوى منه، وتزاوج بينها وبين الاحتساب المالي الصرف الذي لا يقارب المسائل إلا بلغة الأرقام، ومعه تلتقط قطاعات الدولة أنفاسها وتوضع على سكّة التعافي، من خلال تمكينها من تأمين تمويل عقلاني، ومن الحصول على صورة لا غبار عليها، تساعد على وضع خطة إصلاحية اقتصادية – مالية واجتماعية، وإما خيار إبقاء الأمور على حالها، ما يجعلنا أمام انهيار كبير وفوضى عارمة ومزيد من الإفقار والجوع… والهجرة.
يا حكماء لبنان، صارحوا ناسكم بين السيئ والأقل سوءاً، لعلّ بلدكم يجتاز قطوع تدمير ما تبقى منه وتُنقذ المراكب الباقية قبل أن تُحرق جميعها، وإلا سنكون أمام ساعة لا ينفع معها الندم!
– الميادين