” الهريسة ” طبق عاشوراء العابر للطوائف والمجتمعات

تحقيق سارة خريباني
خاص الليطاني نيوز

على الرغم من انتشارها الكبير عند المسلمين الشيعة في عاشوراء، إلا أن ما لا تعرفه عن الهريسة أنها منتشرة عند عدة ديانات ولها أسماء عديدة مثل الهريس، الحنطية، الطلوع.. سيدة المائدة والهريسة مأخوذة من الفعل هرس أي دق الشيء. فمثلا في دول الخليج تحضر الهريسة في رمضان وفي مناسبات الزواج أو الأعياد كعيدي الأضحى والفطر، وعند الأرمن مثلًا تسمى هريسة الأرمن وهي متوارثة منذ ١٦ قرنًا وتقدم في المناسبات الدينية الأرمنية التي تطلب الصيام والتكفير عن الذنب ويقدم أيضا في عيد الفصح ويعتبر الطبق الوطني لأرمينيا.
وعند المسيحيين، أيضا تحضّر الهريسة على مواقد الحطب في المناسبات السعيدة وغير السعيدة ولاسيما في عيد السيدة العذراء، ويقترن تحضيرها وتوزيعها منذ القدم بالذبائح المقدمة إلى الكنيسة، وتعد كوجبة جماعية للمدعوين والمشاركين في الاحتفالات الدينية والشعبية، وأحياناً يعمد المحتفلون في القرى بالأعياد والأعراس إلى إرسال حصص من هذه الأكلة إلى الأقارب أو الأصدقاء الذين لم تتيسر لهم المشاركة في الاحتفال.
وإلى جانب المسيحيين يستخدم الاشوريون الهريسة في عيدي الميلاد والفصح ويتم تحضيرها في بعض القرى اللبنانية في مناسبات الزواج لتوزيعها على العائلات الأكثر فقرا .
إلا ان الشائع أكثر هو تحضيرها كل عام مع بداية شهر محرم
تربط إحدى الروايات الهريسة بذكرى واقعة الطف التي استشهد فيها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه وتم فيها سبي النساء إلى الشام وهناك أعياهم التعب لطول الطريق فكانت السيدة زينب(ع) شقيقة الإمام الحسين(ع) تجمع الحبوب الموجودة في الخربة التي احتجز فيها السبايا وتصنع بها على الرغم من قلتها طعامًا تسد به رمق الجوع الذي أنهك الاطفال وبناء على ذلك صار المسلمون الشيعة يحضرون الهريسة في عاشوراء في موعد الذكرى.
وتأسيًا بفعل السيدة زينب عليها السلام، ومواساةً لأهل البيت (ع) بمصابهم، تعمد الكثير من البيوت إلى إحياء هذه الذكرى عبر تحضير هذه الوجبة التراثية وتوزيعها على الأقارب والجيران وحتّى الغرباء من المارّة.

الحاجة أم علي عصفور من بلدة بريقع الجنوبية

الهريسة وطريقة تحضيرها
“منذ طفولتي تغمرني السعادة عندما توكل إليّ مهمة توزيع الهريسة على البيوت وأنا في عمر السادسة تقريبا، فأحمل “الطنجرة” وأدور بين دور أهل القرية حتى تفرغ الكمية
بهذه الكلمات بدأت الحاجة أم علي عصفور (63 عامًا) من بلدة بريقع الجنوبية تروي لليطاني نيوز تجربتها العريقة مع هذا الإحياء التراثي القديم، وتتابع ثم ورثت هذا العمل عن أمي رحمها الله فنقلت هذه العادة من بيت أهلي إلى بيت الزوجية وأقوم بذلك كل عام الحمد لله والشكر لله وتتابع بلهجتها الجنوبية المحبوبة ” ياريت كل ايامنا عاشورا ”
أما عن تفاصيل تحضير الهريسة فتتابع الحاجة أم عليبكل لهفة “يحتاج العمل إلى ثلاثة أشخاص على الأقل حين تكون ” الهريسة كبيرة ” يتعاونون ويجتمعون ويأنسون ببعضهم ويكسبون الأجر فنقوم بتنقية القمح من الشوائب ثم “نقعه ” في الماء لعدة ساعات وتحضير اللحم أو الدجاج بعد تنظيفه وإضافة المطيبات. بعد أن يستوي في القدر، نضيفه للقمح الموجود في الدست ونستمر في ” الدعك ” حتى يتغير قوامه ويتم تحضير الزبدة او السمنة او اللية حتى نحصل على الحرارة المطلوبة لتضاف إلى مكونات الدست. وبعد نصف ساعة يكون العمل بالهريسة قد اكتمل ليبدأ الأحبة والمجتمعون بملء قدورهم” .
وتضيف : “نبدأ بتحضير المكونات قبل يوم من وقت العصر أو الغروب عبر تجهيز الدجاج او اللحم والقمح ثم نوقد النار تحت القدرمن الصباح الباكر ويستغرق العمل حوالي ست ساعات
بوجهها البشوش المليء بآثار البركة والكدّ، تعبر الحاجة أم علي عن سعادتها ” بلمة الناس ” لتأكل طعاماً على حب الحسين “ع” بحيث لا يتسع المكان للقدور المصفوفة، وتتابع مبتسمة : “هذه “اللمة” تشعرك بالحنية والألفة وأنه لا تزال المحبة عامرة بين الناس والأهل فأنا أدعو أخواتي وأقاربي وكل من يحب الحضور” وتجود مضيفةً: “عندما أنتهي من العمل أشكر الله على كثير خيره وأدعو دائما “عقبال كل سنة” و “ألف صحتين ع قلب كل مين أكل”، أنا لا أتعب ولا أتذمر أبدا، إن كل ما لديّ هو على حب محمد وآل محمد وأشعر ببركتهم موجودة في كل شيء في حياتي”

وتظهر عاطفتها الجياشة في ملامحها الترابية لتضفي على عينيها المزيد من الحنان، حين تخبرنا عن حبها العميق لأصحاب المصاب الإمام الحسين (ع) وأهل بيته، وأثرهم العميق في حياتها: ” لديّ حب كبير لأبي عبد الله عليه السلام و السيدة فاطمة عليها السلام، فبركة أهل البيت موجودة وملموسة، وحين لا أقدم لأجلهم أشعر بنقص في العطاء”، وتؤكّد: “إن هذه العادة إحياء وسنّة، هذا الإطعام على حبهم يشعرني بقيمة الأجر الذي أكسبه ولا أشعر مقابله أبدا بأي تعب أنا كل ما عندي وما اعطاني الله حتى اولادي هو على حب محمد وآل محمد وأسأل الله أن يقدّر كل الناس على فعل الخير على حب محمد وآل محمد”.
وتختم الحاجة أم علي حديثها مع الليطاني نيوز بقولها أن العطاء على حب أهل البيت (ع) يقربها من الله تعالى ويغمرها بروحانية كبيرة.

الهريسة بين الدين و الموروثات
مع مرور الوقت وإن كانت الهريسة من الموروثات القديمة العهد والمستمرة حتى الان وكل عام بشكل أقوى وعلى الرغم من الضائقة الاقتصادية الكبيرة التي يعيشها الناس إلا أنك ترى الناس تبذل كل ما بوسعها لإحياء هذه الشعيرة وللتعمق أكثر في مفهوم العطاء الذي شكل الدافع الأول في استمرارية هذه الصورة التراثية الجميلة والتي يشكل تحضير وجبة الهريسة جزءا منها، يشرح سماحة الشيخ حسين صقر، استاذ في العلوم الدينية وطالب في الحوزة العلمية، لليطاني نيوز منطلق العطاء من الناحية الدينية:
“حقيقةً إن هذا السياق يتناول ثلاثة عناوين: الأول أنه إحياء لسنّة ومستحب من المستحبات الأكيدة في منظومتنا الإسلامية وهي سنّة الإطعام، أي إطعام الناس، وفيها اقتداء بأهل البيت (ع)، والآية التي وردت بحقهم في سورة الإنسان {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، فعبر إحياء المواكب تنشتر سنّة رسول الله (ص) ” مَنْ أَطْعَمَ مُؤْمِناً حَتَّى يُشْبِعَهُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اَللَّهِ مَا لَهُ مِنَ اَلْأَجْرِ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلاَّ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ” إضافة إلى كونه اقتداء بسيرة أهل بيته (ع). والعنوان الثاني أنها صفة من صفات شيعة أهل البيت (ع) “شيعتنا يعرفون بالبذل والسخاء” حيث أن هنالك مال يبذل من أجل السخاء على المؤمنين.
والثالث هو نفس التقرب إلى الله عز وجل بهذا العمل من باب الحسين (ع)، أي أن الناس تطعم بنية التقرب إلى الله والداعي لذلك حبّ الحسين (ع)، فهم يبحثون عن وسيلة يعبرون بها عن حبهم للحسين (ع) ومنها المظهر الجميل للتكاتف بين الكبار والصغار. ”
أما عن القيمة الاجتماعية لهذا التجمع على المستوى الاجتماعي والديني وأثر هذا العطاء عبر الاجيال، فيضيف سماحته: “لهذه التجمعات والاحياءات الكثير من الاثار المعنوية والاجتماعية: أما الآثار المعنوية فهي ذات آثار تكوينية حيث أن ثمرة هذه الأعمال تظهر في عدة أوجه، أولها كون فعل الإطعام هو صدقة، التي هي عمل مستحب وله ثمرات مثل دفع البلاء، مداواة المرضى، دفع ميتة السوء، كما أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وهذا شكل من أشكال الآثار التكوينية، حيث أن الكثير من أصحاب المواكب سيشفى مرضاهم تدفع عنهم البلاءات وهم لا يعلمون، إثر هذا العمل المستحب.
وأما الآثار الاجتماعية، فمنها خلق الرحمة في المجتمع أي ايجاد مسألة التراحم بين الناس حيث أن هذا التلاحم يكسر جمود وقسوة القلب، إذ أن الإطعام و سد الجوع هو شكل من اشكال الشعور بالآخر أيا كان الذي يحصل على هذه الوجبات فقيرا كان أم غنيا فهو يأخذها تبركا بسيد الشهداء عليه السلام.
وأخيرا، والأهم، أن هذه التجمعات تشكل نوعا من الإعلام والضجيج الذي يلفت نظر العالم الى القضية الحسينية حيث أن قضية الإمام الحسين (ع) تحتاج إلى ضجيج وصخب حتى تبقى حية ومنتشىرة ومستمرة، لذلك فإن المضائف من مصاديق هذا الضجيج.
وباعتبار أن بعض المساحات والمناطق لا يمكن إقامة المجالس فيها فتحل محلها المضائف حيث الإطعام والإضافة والبكاء أيضا.
وبذلك فإن المضائف أصبحت جزءا من إحياء شعيرة الحزن على سيد الشهداء (ع)”.

خاتمة
إن التقاليد المتوارثة عبر الزمن تشكل هوية المجتمع الذي يحيا بالأثر، فإن كل فعل ينتقل من جيل إلى آخر يحمل في طياته آثارا تغطي جزءا من احتياجات هذا الجيل الاجتماعية والنفسية والانسانية، وليست عادة تحضير وجبة الهريسة في عاشوراء أو في غيرها من المناسبات الدينية عند المسلمين أو غيرهم من الديانات الأخرى الا صورة من صور هذه الثقافة المتجسدة بالروح الانسانية الحيّة للمجتمعات وهي ثقافة العطاء والتقرب لله سبحانه وتعالى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى