تشريع الذئاب(الجزء الرابع)….بقلم الكاتب حسيب قانصوه
تشريع الذئاب
الجزء الرابع:
العلاقات الدبلوماسية في الحضارة العربية الإسلامية:
في الحقيقة، أن مجلدا لا يكفي في التحدث عن حضارات الدول والشعوب في المزمنة القديمة التي كانت مقدمة لتطوير الحضارات والعلاقات الدبلوماسية والسياسية بينها، وهذا ما فتح الباب واسعا لوضع مداميك وأسس تلك العلاقات التي وللأسف وضعتها الدول القوية والإستعمارية في مواضع غير عادلة وغير منصفة ومجحفة بحق الدول الصغيرة والضعيفة وبذلك استطاعت تلك الدول، السيطرة على مقدرات الشعوب في كافة دول العالم ونهبتها بالقوة أو بقوانين مقوننة وتشريعات مشرعة لمصالحهم كما أرادها من يحكم هذا العالم بصناعاته المدمرة للبشرية حيث تفقد الإنسانية مقاعدها ووجودها في عالم ماتت فيه ضمائر الحاكمين الذين يرفضون محاكاة المستضعفين بغير القوة والقتل والجريمة والإستعباد والإبادة .
هنا، لا بد وأن نتحدث عن حالتين متناقضتين ونريد أن ننهي بهما هذه الأطروحة ، لأننا إذا أردنا أن نتناول كل الحضارات في العالم ، فكما قلنا ، أن مجلدا لا يتسع لتناولها كافة.لذلك كان من الضروري أن نقيم مقارنة بين حضارتين تخوضان صراع وجود ، إحداهما بدأت منذ ما يزيد عن الألف وأربعمائة سنة وهو زمن الدعوة إلى الإسلام بقيادة النبي محمد بن عبد الله ” ص” والثانية في الزمن الحالي وإن بدأت مستترة بأسماء ووجوه مختلفة ، تحكم العالم بتشريعات أطلقنا عليها تسمية ” تشريع الذئاب” وهي لا تصلح حقيقة ، لتعامل قائم بين البشر من جهة ، والحيوانات الكاسرة من جهة أخرى وهي عند أصحاب العقول المغلقة وأصحاب المصالح المادية “حضارة” فقط لأنها في ظاهرها سبقت الحضارة الإسلامية والعربية بالصناعات المفيدة والمدمرة على السواء وفي باطنها، القتل والجريمة واستعمار الدول الفقيرة والنامية.
في عهد النبي محمد”ص”:
لما كان الإسلام ، جاء بأحكام وتشريعات تفصيلية ، كان من الطبيعي ، أن تعميمها ونشرها ، يتطلب الفهم والإدراك والتعمق في معرفة أحكامه من قبل المخاطبين به . وقد تبنى النبي “ص” توضيح محتوى الإسلام وغاياته وأبعاده بالوسائل الدبلوماسية وبسهولة ويسر ، لذلك، لم يبدأ عليه الصلاة والسلام بالأمم المتخلفة التي لا تعرف الأديان، بل بدأ بالأمم المتطورة التي شهدت أديانا سماوية ومؤسسات دينية ، ولهذا كان من الطبيعي أن يبدأ بمخاطبة الملوك والأمراء وشيوخ القبائل التي وصلت مرحلة متقدمة من الإدراك والوعي لفهم الدين الجديد ومعرفة أحكامه كما أنزلت ، بذلك وبطريقة غير مباشرة ، أعطى النبي الكريم فرصة لهذه الطبقة من المجتمع أن تتعامل معه ومع الدعوة بتعقل وفكر متقدم دون الإنزلاق فورا إلى المعاداة والمواجهة بالحروب التي كان يعلم سلفا بقيامها ضد دعوته.
من هنا ، وانطلاقا مما تقدم ، وبأخلاقه وحنكته وأدبه ودينه وسياسته المتأنية وذكائه وخبرته ، كان عليه الصلاة والسلام دقيقا في اختياره للرسل المكلفين بحمل رسائله للملوك وشيوخ القبائل . في المقابل ، كان النبي “ص” يتمتع في خبرة لا يملكها إلا من لا يخطيء في كيفية أسلوب نشر الإسلام ومدى تأثير شخصيته في إدارة علاقات الإسلام الدولية بطريقة استقبال الرسل والتفاوض معهم ومنحهم الإمتيازات والحصانات الدبلوماسية وعقد الصلح والهدنة والتحالف وتسوية المنازعات بالوسائل السلمية وتبادل التهاني وقبول الهدايا وإرسالها لمن يراه أهلا لها ، زد على ذلك ، دقة اختياره للولاة والقضاة في المدن الإسلامية ليكون العدل في ربوع المسلمين سيد الأحكام.
بهذه الصورة ، تمكن النبي “ص” من احتلال قلوب ومحبة كل من تواصل معهم أو سمعوا به وهذا ما دفع اليهودي الأميركي ” مايكل هارت” من اعترافه وفي زمننا هذا ، أن محمدا ” ص” هو أعظم شخصية في التاريخ وقد خضع هارت لضغوطات في محاولة تغيير رأيه بالنبي وإعادة دراسته لعظماء التاريخ ، إلا أنه أصر في كتاباته التالية أن محمدا مازال الأعظم في العالم .
في المقابل ، يتجاهل الفقه الدولي الحالي دبلوماسية النبي عليه الصلاة والسلام مدعيا ، أن تطور المراسلات الدبلوماسية الدولية في الوقت الحاضر ، إلى ما توصلت اليه الدول الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر خاصة منذ مؤتمر فيينا 1815 متجاهلين ما سبقهم اليه النبي “ص”كما أشرنا ومن الغرابة أن هذا العالم الذي يدعي الحضارة بمعانيها الإيجابية ، منذ ما يقارب المئتي عام ، يتجاهل حقدا وكراهية بالنبي محمد”ص” والإسلام الذي أسس ووضع أسس الحضارة البشرية بقواعدها الأنجح والأكفأ والأعدل بمضامينه الإنسانية وأرسى قواعد العلاقات الدبلوماسية والسياسية عندما اعتمد إرسال المذكرات الدبلوماسية للملوك والأمراء وشيوخ القبائل وهو ما يعبر عنه اليوم بالبعثات الخاصة التي تتحدد مهمتها في تنفيذ ما يطلب منها.
الأمر الآخر ، أن الدول وفي عصرنا الحالي، تعتمد على المثقفين والمتعلمين وأصحاب النفوذ وتعيينهم سفراء أو مبعوثين وكان النبي عليه الصلاة والسلام يكلف من تتصف فيه صفات الدبلوماسي ويتكلم بلغة القوم المبعوث اليهم ويملك القدرة على إيصال المطلوب وشرح ما انتداب من أجله ضمن قواعد الحقوق والإحترام المتبادل وتأكيدا لهذا التصرف الراقي في التعامل الدبلوماسي : فقد سجل التاريخ أن النبي محمد “ص” أرسل مبعوثين إلى كل من :
النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر وهرقل أمبراطور الروم وكسرى ملك الفرس وأسقف نجران وزعماء يهود خيبر وملوك عمان والبحرين واليمن بالإضافة إلى مجموعة أخرى من زعماء القبائل المتفرقة في شبه الجزيرة وأطرافها دون أن يستثني أحدا.
وقد عقد عليه الصلاة والسلام، العديد من المعاهدات منها : مع أهل المدينة ، معاهدات حسن الجوار ، معاهدة صلح الحديبية وقد قلده في ذلك الإمام الحسن بن علي عليهما السلام في معاهدة مع معاوية بن أبي سفيان الذي أنقضها وضرب بها عرض الحائط عملا بقناعاته ومصلحته في توريث الحكم لابنه يزيد لما كان يمثله من فساد في الأرض وعداء لدين محمد عليه الصلاة والسلام .
أضف إلى المعاهدات في زمن النبي “ص” عرف الإسلام نظامي ، اللجوء الإقليمي واللجوء السياسي والمقصود كان حماية المسلمين في مكة من الإضطهاد الذي تعرضوا له من جماعة المشركين وأوصيائهم في السر والعلن هناك.
لا ننسى لجوءه عليه الصلاة والسلام إلى يثرب ولجوء عدد من الصحابة إلى الحبشة وقانون اللجوء هذا ، يعمل به في زمننا الحالي وما نريد الإشارة اليه أن الإسلام بقيادة محمد ” ص” راعى هذه القواعد مجتمعة وعمل بها قبل قيام الغرب وتشريع الذئاب فيه.
” غدا الجزء الخامس والأخير”
حسيب قانصوه.
” الحائز على الدبلوم في العلاقات الدبلوماسية والسياسية من الهيئة الدولية للتحكيم و جامعة القاهرة في مصر”.