أزمة الطحين: بدأت مفتعلة وستتجد مفتعلة…….رفع الدعم آتٍ… ولو بالدين
فجأة توافر الخبز. تقلّصت الطوابير وانتهت الأزمة. انتهت قبل أن يتحرّك القضاء للتحقيق في التقرير الذي سلّمه إياه فرع المعلومات. يتضمن التقرير تفاصيل عن مافيا الطحين بالأسماء والكميات. الخبز صار متوافراً في الأفران والدكاكين والسوبرماركت بعدما وصل 48 ألف طن قمح إلى لبنان جرى توزيعها على كل المطاحن رغم أن هذا الكارتيل كان يرفض إعادة توزيع القمح المستورد على كل المطاحن لإشباع السوق. لكن كيف وصل القمح إلى لبنان، ولماذا وافق كارتيل المطاحن على إعادة توزيع الكميات وفق الحاجات الفعلية للسوق؟
فعلياً لم ينقطع القمح إلا عندما أوقف مصرف لبنان تمويل الشحنات بسيولته الدولارية. فالكميات ظلّت متوافرة في السوق، إنما كانت محتكرة على يد كارتيلَي المطاحن والأفران. كان كارتيل المطاحن يرفض توزيع الكميات إلى مطاحن أخرى منافسة، فيما كانت هناك أفضليات في توزيع الطحين على الأفران وفق معايير منها تجاري ومنها سياسي ومنها اجتماعي… هكذا أتيح لمصرف لبنان التلاعب بالسعر المحلي لربطة الخبز من دون أن يتم تحميله المسؤولية المباشرة عن ذلك.
فهو يدرك تماماً أن الاحتكارات ستقوم بدورها كما يجب وسط الفوضى القائمة، أي تقاذف الاتهامات والمسؤوليات. فالتقرير الصادر عن فرع المعلومات بشأن الاستيلاء على الطحين، يعبّر عن وجود هذه المافيا بطريقة تقنية، إذ يشير إلى أن الأفران كانت تحصل على بونات الطحين بسعر مدعوم يعادل 1500 ليرة لكل دولار، لكنها كانت تبيعها في السوق بسعر السوق أي (30 ألف ليرة اليوم). دور المموّل، أي مصرف لبنان، شبه غائب، بينما هو بالفعل من يقود هذه العمليات لأنه مصرّ على وجود سعرين للدولار. والمافيا التي تتألف من أصحاب الاحتكارات في المطاحن والأفران مع عاملين في وزارة الاقتصاد (من رأس الهرم نزولاً) لن تقف عند حدود التنظيم المقرّر لها من وزارة الاقتصاد، بل ستتجاوز ذلك من أجل الحصول على حصّة سوقية أوسع من العمليات المدعومة التي تدرّ أرباحاً هائلة.
بنهاية العام الماضي بدأ الحديث عن أزمة قمح ستضرب لبنان، استناداً إلى عوامل أبرزها كلفة الاستيراد بالدولار وسط استنزاف الاحتياطات التي نموّل بها الكمية المستوردة. كما أن مخزون لبنان من كميات القمح بات ينكمش سريعاً بسبب عدم توافر القدرة التخزينية. وتعزّز هذا الوضع باندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في شباط الماضي، علماً بأن لبنان يستورد نحو 60% من حاجته من القمح من أوكرانيا وروسيا، وهو مجبر على الاستيراد بشكل شهري بعد تدمر الأهراءات.
هكذا بدت الأرضية جاهزة على مستوى التمويل وشبكة الإنتاج والتوزيع. فلبنان يحتاج شهرياً إلى 50 ألف طن من القمح، من ضمنه 36 ألفاً للخبز العربي و14 ألف لصناعة الحلويات والكعك والمناقيش والخبز المرقوق وغيرهم من المنتجات، وفق المدير العام للحبوب والشمندر السكري جريس برباري. وفي جلسته الأخيرة قبل التحوّل إلى حكومة تصريف أعمال، أقر مجلس الوزراء الاستمرار بدعم الطحين المخصّص للخبز العربي فقط، للتخفيف عن كاهل الخزينة وترك المجال مفتوحاً لاستيراد الأنواع الأخرى من القمح لمن يرغب من المطاحن الـ12 العاملة في لبنان. ما حصل هو أن عدداً كبيراً من المطاحن باعت القمح المدعوم في السوق السوداء محقّقة أرباحاً خيالية، وكذلك فعلت الأفران مستخدمة القمح المدعوم في صناعة الحلوى والكعك والمرقوق والكرواسون. ولذا لم يكن غريباً بدء الحديث عن أزمة قمح ورغيف من قبل المطاحن والأفران أنفسهم، لخلق حالة الذعر لدى المستهلك والضغط على الحكومة لضخّ المزيد من القمح المدعوم في السوق، أي ما يحقق لهم أرباحاً طائلة. يومها كانت وزارة الاقتصاد تؤكد أن الكميات المستوردة من القمح تكفي حاجة السوق. اتضح في ما بعد التلاعب الحاصل، وكان موضوع إخبارٍ أحاله وزير الاقتصاد أمين سلام إلى النيابة العامة الماليّة عنوانه هدر للمال العام في استيراد القمح المدعوم وبيعه.
البحث عن أساس الأزمة يعيدنا إلى وزارة الاقتصاد وطريقة التعاطي مع سلعٍ حساسة كهذه. منذ سنوات والوزارة تعتمد في توزيع القمح على آلية تقول بأن على كل صاحب فرن، أن يتقدّم بطلب إلى مديرية الحبوب والشمندر السكري، وبموجبه يحصل على قسيمة تتناسب مع حجم استهلاكه الشهري، المحدّد في الأصل في جداول قديمة تبرز كمية القمح التي يسحبها كل فرن من المطاحن شهرياً. لم تمنع الآلية النظرية المخالفات التي وثّقها تقرير لفرع المعلومات يتحدث عن تورط مسؤولين في وزارة الاقتصاد نفسها. المسؤول المباشر في الملف، مدير عام الحبوب والشمندر السكري جريس برباري، يشكو من الضعف اللوجيستي، مشيراً إلى أن «العاملين في المديرية موظفين اثنين فقط، أثر غلاء المحروقات وكلفة التنقل على مزاولة عملهم كما يجب، في حين أن متابعة 200 فرن و12 مطحنة ملقاة على عاتق المديرية»، مبرراً أن عوامل عدة كان لها دور في أزمة الطحين، كاستهلاك النازحين السوريين لأكثر من 400 ألف ربطة خبز يومية، والتهريب إلى سوريا، وخلق سوق سوداء داخلية للطحين والخبز.
ما لم يقله برباري أنه ترك لمكتب سلام مهمة تولّي الملف. وهناك تفلتت الأمور بمعية مستشارين وموظفين ومقربين تعاملوا مع سلعة أساسية بهذا الحجم من الاستهتار والاستخفاف. وبذريعة ضعف الكادر البشري يتم تبرير السرقات والفشل والتقصير والتواطؤ، عندما تُترك الإدارة للتجار يتحكمون بها لا لموظفين مسؤولين. وما إن بدأ تقاذف التهم بين الأطراف الثلاثة أفران ومطاحن ووزارة اقتصاد، بالتزامن مع ظهور الطوابير والإشكالات أمام الأفران، شكّل سلام خلية أزمة مع وزارة الداخلية، يرأسها هو وتعاونه أجهزة كأمن الدولة والجمارك وفرع المعلومات، في تنظيم حملات كشفٍ على مخازن المطاحن وكذلك الأفران والمقارنة بين حصص الطحين التي استلمتها وكميات الخبز المنتج من قبلها. كما استحدثت الخلية برنامجاً بدأ العمل به قبل 10 أيام، وزّعت من خلاله المطاحن الـ12 على الأفران وعددها 200، بالتناسب ما بين كميات الطحين التي تنتجها كل مطحنة واستهلاك الأفران الشهري. هذا ودخل إلى لبنان 49 ألف طن من القمح خلال شهر تموز، استخدم منهم بضعة آلاف، والمتبقي بحدود بعد 43 ألف طن، من المفترض أن يكفي حاجة السوق لشهر آب ويزيد قليلاً. الأزمة المفتعلة إذاً شهدت نوعاً من الحلحلة ولم تحل، وهي قابلة للظهور في أي وقت طالما أن لا إدارة سليمة ولا قضاء يحاسب.
من ملف : أزمة القمح: رفع الدعم آتٍ… ولو بالدين – جريدة الأخبار